التجربة المغربية ديمقراطية فتية جدا لكنها بعيدة عن نظم عريقة في البطش تتفنن في التنكيل وتبدع في الديكتاتورية
يذكرني النقاش السياسي الدائر هذه الأيام بكرة القدم. فقد غدت السياسة الرياضة الأكثر شعبية بامتياز، يمارسها الجميع في الحافلات، وعلى أسطح البيوت، أو أمام قهوة سوداء باردة على واجهات المقاهي. ويقترح كل فرد تشكيلته الحكومية المقبلة، كما كان يقترح من قبل تشكيلة فريق كرة القدم الذي سيواجه هذا الفريق أو ذاك.
عدد كبير من هؤلاء اختار العالم الافتراضي لتنصيب حكومة "فيسبوكية" جديدة، فانتقى قلب الهجوم، وحارس المرمى، ولاعبي الدفاع من بين السياسيين المحنكين، والاقتصاديين المخضرمين، وغيرهم من نجوم الصالونات والملاعب المعشوشبة.
هكذا إذن، وعلى مدى أكثر من ثلاثة أيام مضت، عين وزراء، وأحدثت مناصب، وأرسل سفراء افتراضيون من طرف فيسبوكيين "في عمر الزهور". فتم تعيين رئيس الحكومة الأسبق إدريس جطو على رأس الحكومة التكنوقراطية الجديدة. ولم تمض إلا ساعات حتى أطيح به وحل محله مصطفى التراب الرئيس المدير العام لمجموعة المكتب الشريف للفوسفاط ، ليعدل اسمه باسم آخر هو مصطفى فارس، رئيس المجلس الأعلى، فيما عين جطو من جديد وزيرا للداخلية.
ومن طبيعة الحال، لم ينس الفيسبوكيون تعيين فؤاد عالي الهمة، مؤسس حزب الأصالة والمعاصرة، سفيرا للمملكة في الرياض، فيما عين منير الماجدي، المكلف بالكتابة الخاصة للملك، سفيرا في أحد بلدان الاتحاد الأوربي.
المغزى من كل هذه الجلبة السياسوية، واللغط الفيسبوكي العقيم هو الفراغ، فراغ الساحة السياسية من مخاطب يشفي غليل الأسئلة، وحالة الترقب التي يحسها المواطنون. وحتى عندما يغادر خالد الناصري، وزير الاتصال والناطق باسم الحكومة، صمت أبي الهول، فإن جوابه لا يحيي ولا يميت، بل هو بلا طعم ولا مذاق، "ورفض التعليق" تعليق للأمور وفتح باب الشائعات والأقاويل على مصراعيه.
لأجل كل هذا يجب علينا الانتباه إلى أمرين هامين: الأول هو أن السياسة كالطبيعة، لا تقبل الفراغ، فكان انتقام بعض المواطنين افتراضيا من خلال الحكومة الفيسبوكية الهجينة. في وقت كان جديرا بالحكومة أو الناطق باسمها، قطع الشك باليقين ويكون الجواب عن سؤال، هل سنشهد تغييرا حكوميا، قطعيا بلا تماطل.
ثانيا، إن المناداة أو حتى التفكير في حكومة تكنوقراطية ضرب للديمقراطية ولمسار ديمقراطي بدأه المغرب منذ سنوات. فالمغرب ليس تونس أو مصر أو ليبيا أو اليمن، وسيرورته الديمقراطية الفتية لا تشبه نظما عريقة في البطش، تتفنن في التنكيل وتبدع في الديكتاتورية.
لا أحد يمكنه أن يجادل اليوم في أن حكومة عباس أخرجتها صناديق الاقتراع، وصنعتها سيرورة ديمقراطية فتية ابتدأت مع الملك الراحل الحسن الثاني، وساهم فيها مناضل اسمه عبد الرحمان اليوسفي، والعودة إلى التكنوقراط معناه العودة إلى نقطة الصفر، وإفراغ استحقاقات 2012 من محتواها وتكريس العزوف عن الانتخابات التي لا تقدم ولا تؤخر!
ووسط كل هذا وذاك، يبقى الارتباك هو السائد، ارتباك المواطنين الذين تتقاذفهم الشائعات، والقيل والقال، وبدؤوا يحسون بتأثيرها على حياتهم اليومية.
جمال الخنوسي