يقول أحد الخبراء الفرنسيين في مجال الإعلام،
"إذا كان السوق يطرح مشكلا على وسائل الإعلام فاستخدامها الاجتماعي يطرح
أسئلة". ولذلك تطرح أسئلة كبرى علينا اليوم، بل تفرض نفسها بقوة وعنف حتى غدت
موضوعا رئيسيا لدى الصحافة وجلسات الحوار ونقاش العام والخاص، وانخرطت فيه
(تقريبا) جميع مكونات المجتمع.
ولعل أهم ما نجح فيه الخلفي منذ توليه منصب وزير الاتصال،
(عن قصد أو غير قصد) إثارته موضوع الإعلام السمعي البصري وجعله موضوعا جوهريا للنقاش
يدلي فيه الجميع بدلائه.
والملاحظ أن هذا النقاش زاغ في البداية عن هدفه الأساسي
وتطرقه إلى القضايا الكبرى والاستراتيجيات العامة، ودخل في البوليميك والمزايدات السياسية
حول الأذان والقمار... وأشياء أخرى هامشية، وإن كانت معبرة وكاشفة عن بواطن
الأمور، قبل أن يعود إلى الاستراتيجيات الكبرى وطرح أسئلة جوهرية.
إن التلفزيون ليس قضية سياسية فحسب، ولا رهانا للتجاذب
وربح المكاسب الصغيرة والكبيرة، بل هو أولا وقبل كل شيء حرفة لها ناسها ومهنيوها
ومحترفوها، ومن غير المعقول ترك التلفزيون "ليعبث فيه" السياسي على حسابنا
وحساب المهني.
لقد كان قانون الاتصال السمعي البصري (03 - 77) واضحا في
هذا المجال ولم يترك مجالا للالتفاق عليه وتحدث في فصوله المتعددة (المادة 47 و51
و52 و54...) عن الدولة كفاعل أساسي ومحوري حتى يقطع الطريق أمام التأويلات
السياسوية أو المذهبية أو الحزبية لأن الحزب أو الحكومة فانيان، أما الدولة فقائمة
ومستمرة. عن المغاربة ليسوا فئران تجارب تطبق عليها الحكومات المتعاقبة أو الأحزاب
الحاكمة نظرتها وتصورها كل خمس سنوات!
وجاء في المادة 46 من قانون الاتصال السمعي
البصري أن الشركات الوطنية للاتصال السمعي البصري العمومي، تهدف كل واحدة منها حسب خاصياتها، إلى إعداد وبرمجة مواد تبث في مجموع التراب
الوطني، وعند الاقتضاء، على الصعيد الجهوي والدولي. وتقدم الشركات برمجة ذات مرجعية عامة ومتنوعة موجهة إلى أكبر فئة من الجمهور تستند إلى الحضارة المغربية الإسلامية العربية الأمازيغية وإلى قيم الديمقراطية والحرية والانفتاح والتسامح والحداثة.
لقد كان المشرع فطنا وعلى وعي بأن التلفزيون مرفق حوي
وليس عنادا سياسيا. التلفزيون ملك المجتمع ولا أحد له الحق في أن يتحدث باسمنا
وبما نريد.هل قمنا بدراسة حقيقية لمعرفة احتياجات المغاربة التلفزيونية؟ هل مصطفى
الخلفي أو ماروك ميتيري وكل من يشرع فمه اليوم بما يريد المغاربة وتلفزيون
المغاربة... يعرف حاجات المغاربة الحقيقية؟ يكفي هنا الحديث عن مغربي عمره 14 سنة،
أين مكانه في التلفزيون؟ وما هي اللغة التي نخاطبه بها (العربية الفصحى، الدارجة،
الفرنسية، العرنسية...)؟ المشاهد المغربي هو المجهول الكبير في المعادلة، والضحية
الأولى والأخيرة في الموضوع برمته.
القنوات العمومية لا تعكس قناعات حكومة أو حزب بل تنفذ سياسة
الدولة. سياسة الدولة التي تعبر عنها جميع مكونات المجتمع المغربي: الملك
والبرلمان والحكومة والرأي العام والصحافة والمجتمع المدني... والخلط الذي وقع
للخلفي بين تصور الدولة للإعلام وتصوره الحزبي للتلفزيون خلق هذا الزلزال الذي
يهدد الائتلاف الحكومي من الأساس.
إن الدستور المغربي نص مفتوح (إذا ما اقتبسنا مقولة محمد
أركون عن القرآن) ويمكن أن نمنحه قراءات متعددة حتى يوافق تحولات المجتمع وحراكه
وخياراته ويحمي توابته أيضا. وما قام به مصطفى الخلفي يعتبر قراءة مغرضة، وذات نية
مبيتة لها عنوان واحد ووحيد: تمرير السم في العسل. فالمغاربة لا يمكن أن يكون قدرهم
محتوما بين خيار "الكوليرا" أو "الطاعون". السؤال الحقيقي هو أي
مغرب نريد؟ وأي جيل ستخلق دفاتر التحملات في صيغتها الحالية؟