مع
بداية الأسبوع الجاري، شهد النقاش حول دفاتر تحملات القنوات التلفزيونية العمومية
مرحلة جديدة. فبعد أن اتسم الأسبوع الأول بدفاع كل طرف عن هدفه: السياسي يتحدث عن
الدستور والمقاربة التشاركية والشفافية، والمهنيون يتحدثون عن استقلالية التلفزيون
من سطوة السياسي وطريقة اشتغالهم وقواعد البرمجة، يتميز الأسبوع الثاني من النقاش
بتحوله إلى الهجوم مادام دفاع كل طرف عن موقفه لم يعط أكله لأن النقاش العمومي اقتصر
على المهنيين من جهة وطرف داخل الحكومة من جهة أخرى دون أن ينخرط فيه المجتمع
المدني (الجمعيات الحقوقية مثلا). سمعنا حزب العدالة والتنمية يهدد بالنزول إلى
الشارع، ويتحدث عن البوليس الإعلامي وعجر القناة المالي... فيما يهاجم المهنيون
الطرف الآخر بالقول إن الحكومة بقيادة الخلفي تطبق برنامجا إيديولوجيا ضدا على إرادة
المغاربة.
وعندما
تنتهي مرحلة الهجوم هذه سنكون أمام احتمالين اثنين: أولا استنزاف كل طرف لذخيرته ووقف
إطلاق النار ثم الجلوس إلى طاولة المفاوضات والتوافقات. أما الاحتمال الثاني، وهو
الأسوأ، سيصيب طرف الطرف الآخر في مقتل، وهو حل لن يكون مفيدا لا للتلفزيون ولا
للحكومة. وستكون نتيجته ضياع النقاش العمومي المفيد الذي سيصبح مجرد تصفية حسابات.
وسط
هذه الزحمة من التصريحات والتراشق بالاتهامات، فضلت الهيأة العليا للاتصال السمعي
البصري عدم الدخول في هذا الجدال حتى قبل بدايته، كي لا تصيبها رصاصة طائشة. فقد
اختارت الهاكا عدم الحضور إلى الندوة الصحافية التي عقدها مصطفى الخلفي، وزير
الاتصال، لتقديم دفاتر تحملات صورياد دوزيم والشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون.
وفسرت بعض المصادر حينها عدم الحضور بحرص الهاكا على موقعها المؤسساتي كهيأة تقنين
دستورية.
ومن
هنا جاء الموقف الذي أعلن عنه الغزلي خلال درسه
الأكاديمي حول "وسائل الإعلام في علاقتها بتحولات المجتمع السياسي، المغرب
نموذجا"، يوم الجمعة الماضي، بمركز روابط التابع لكلية الحقوق بالدار البيضاء،
إذ قبل الشروع في إلقائه أكد، رئيس الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري أنه يحاضر
بصفته أستاذا جامعيا بمنهجية تزاوج بين المفاهيم النظرية وتطبيقاتها في امتداد في
الزمن، بغض النظر عن منعرجاته الآنية منذ تحرير القطاع، وبالتالي فلا يجب أن ينتظر
الحضور منه، يضيف الغزلي، أن يدلي بتعليق أو أن يفصح عن موقف حول الأحداث الجارية
اليوم في القطاع السمعي البصري.
هذا التوضيح الاستباقي من الغزلي كان جوابا على بعض
الأسئلة التي طرحت منطقيا في ما بعد عند نهاية الندوة حول موقف الهاكا من الجدل الدائر
هذه الأيام وحول توجهات دفاتر تحملات التلفزيون العمومي التي أعدتها الحكومة، إذ
أكد حكيم القطاع السمعي البصري أن الهاكا ليس بإمكانها ولا من اختصاصها التخندق
سياسيا، وهو مبدأ آمنت به وتمسكت به في اشتغالها على كل القضايا التي عرضت عليها منذ
تأسيسها في سنة 2004، مضيفا أنها تنأى بنفسها عن الدخول في الجدال
الدائر حول دفاتر التحملات، على اعتبار أنه يضم رؤى ووجهات نظر متقاطعة ومتباينة
سياسيا ومهنيا، ولا يمكن للهيأة أن تتخندق فيه، وإلا شكل ذلك مساسا باستقلاليتها،
بل وحتى بوظائفها التحكيمية المبنية على انتصارها للقانون أولا، مشيرا في الوقت
نفسه إلى أن النقاش العمومي الموجود اليوم في الساحة في حد ذاته صحي ومفيد للقطاع،
على اعتبار أنه ليس إلا امتدادا لمسار دشن قبل عدة سنوات.
في المقابل أكد الغزلي أن هذا الموقف المؤسساتي لا يعني
الهروب إلى الأمام، بل على العكس مند ذلك فالهاكا تراقب وعن كثب تطورات هذا النقاش
ومجلسها بصدد تكوين رؤيته وموقفه الخاص منها، بعيدا عن منطق ردود الفعل، وعيا منها
بأن هيأة التقنين في بلدان مثل المغرب تعيش حراكا سياسيا واجتماعيا وسياسيا
وثقافيا ينبغي أن تكون أيضا فاعلا في التغيير وضامنا للتوازنات المجتمعية المتعلقة
بالقطاع السمعي البصري، كما هو الحال في البلدان المتقدمة التي تعترف بنجاح
النموذج المغربي في مجال التقنين السمعي البصري في إطار الشبكات الفرنكوفونية
والمتوسطية والإفريقية التي تولى أحمد الغزلي رئاستها خلال السنوات الثلاث الماضية،
خاصة في مجال تدبير سؤال التعددية في مختلف المجالات السياسية والثقافية واللغوية
والمجالية.
جمال الخنوسي