جمال الخنوسي
سماء السمعي البصري تتلبد يوما بعد آخر، وكل المؤشرات
تدل على أن عاصفة قادمة وأعاصير محدقة، ربما ستعصف بما تبقى من صفو جو تتعاقب عليه
التيارات الباردة والساخنة، مع انفراجات قصيرة سرعان ما تترك مكانها للتوتر.
العارفون بالأمور يقولون إن معركة دفاتر التحملات لم تكن إلا بداية تسخينية في
انتظار معارك حقيقية من المرجح أن تكون التلفزة الرقمية الأرضية ساحتها
المقبلة.
هل يعيد ملف
التلفزة الرقمية الأرضية إنتاج العناصر نفسها التي خلفت معركة دفاتر التحملات بكل
نتائجها الكارثية على القطاع الذي يشهد ركودا قاتلا منذ قرابة سنة؟
يمكن الاعتماد على ثلاثة مستويات من القراءة من أجل
شرعنة هذا السؤال:
أطراف النزاع
المستوى الأول مرتبط بوجود قواسم مشتركة بين الحالتين،
إذ أن ملف التلفزة الرقمية الأرضية تتقاطع فيه الأطراف الرئيسية ذاتها التي كانت
معنية بنزاع دفاتر التحملات (القطب العمومي والحكومة والهيأة العليا للاتصال
السمعي البصري). ويعتبر القطب العمومي شريكا أساسيا في مشروع التلفزة الرقمية
الأرضية لأنه أول من أطلق "تي إن تي" في 2007، وهو أيضا من مكن اليوم من
تغطية 80 في المائة من التراب الوطني بالتلفزيون الرقمي الأرضي، أما الحكومة
فتستمد شرعيتها من أنها تمتلك الاختصاصات التمويلية في تنفيذ السياسة العمومية.
فيما تقدم الهيأة العليا للاتصال الخبرة التقنية والقانونية، إذ رافقت ملف التلفزة
الأرضية الرقمية منذ إطلاقه في 2007 كما أنها تمنح التراخيص للقنوات التلفزيونية
الخاصة، بصفتها الزبون المقبل لهذا النوع من البث.
تقاطع خطير
المستوى الثاني للفهم مرتبط بالجواب عن أسباب الأزمة
التي يعتبر التنازع في الاختصاصات والصلاحيات وحتى المبادرات مصدرها الأساسي، ومن
هنا جاءت أيضا مشكلة دفاتر التحملات الشهيرة إذ أن حدود التماس التي تميزت بها هي
نفسها المتوفرة اليوم في ملف "تي إن تي".
أكثر من هذا ستزيد الوضعية القانونية المبهمة في للأطراف
الثلاثة المشتركة في ملف "تي إن تي" في تفاقم الوضع وزيادة في أسباب
التوتر والتصعيد، إذ لا يوجد إلى حد الساعة إطار قانوني يوضح ويؤطر التلفزة
الرقمية، فما بالك بمعرفة الحدود والاختصاصات، الأمر الذي يجعل التلفزة الرقمية
الملك المشاع وفي أحسن الحالات ملكا لورثة كثر وجدوا أنفسهم بعد الدستور الجديد
والحكومة الجديدة وأزمة دفاتر التحملات الاخيرة مجبرين على إعادة اقتسام تركة
الأمس التي عمرها 5 سنوات من التلفزة الرقمية.
ولم تساعد النصوص القانونية المتوفرة في حالة دفاتر
التحملات على تجاوز المشكل، أما في ملف "تي إن تي" فإن الحالة أصعب إذ
لا وجود لقانون بالمرة ما يجعل الأمر مرشحا لتوتر أكبر.
الثابت والمتحول
أما من أجل فهم المستوى الثالث للقراءة فيجب العودة إلى
قضية دفاتر التحملات التي صيغت في نسخة شهر مارس بمنطق حكومة وليس بمنطق دولة،
علما أن القانون يقول إن الإعلام العمومي ينفذ سياسة الدولة، وبالتالي فإن المشرع
كان ذكيا عندما لم يلزم الإعلام بتنفيذ سياسة حكومة على أساس أننا هنا أمام جدلية
الثابت والمتحول: فالحكومة تحولها صناديق الاقتراع التي تجعلها إسلامية أو تقدمية
أو تكنوقراطية أو حكومة ائتلاف... أما الدولة فتعبر عن خيارات مجتمعية ما أعطى
مبررا إلى تعديل دفاتر التحملات بعد التحكيم الملكي.
إن التلفزيون ليس قضية سياسية فحسب، ولا رهانا للتجاذب
وربح المكاسب الصغيرة والكبيرة، بل هو أولا وقبل كل شيء حرفة لها أصحابها ومهنيوها
ومحترفوها، ومن غير المعقول ترك التلفزيون "ليعبث فيه" السياسي على حساب
المهني.
لقد كان قانون الاتصال السمعي البصري (03 - 77) واضحا في
هذا المجال ولم يترك مجالا للالتفاف عليه وتحدث في فصوله المتعددة (المادة 47 و51
و52 و54...) عن الدولة كفاعل أساسي ومحوري حتى يقطع الطريق أمام التأويلات
السياسوية أو المذهبية أو الحزبية، لأن الحزب أو الحكومة عابران، أما الدولة
فقائمة ومستمرة.
القنوات العمومية لا تعكس قناعات حكومة أو حزب بل تنفذ
سياسة الدولة التي تعبر عنها جميع مكونات المجتمع المغربي: الملك والبرلمان
والحكومة والرأي العام والصحافة والمجتمع المدني... والخلط الذي وقع للخلفي بين
تصور الدولة للإعلام وتصوره الحزبي للتلفزيون ساهم في خلق الزلزال الذي هدد
بالانقسام داخل المجتمع وداخل الائتلاف الحكومي الهش.
مشروع سيادي
أين تتجلى ملامح مشروع الحكومة ومشروع الدولة في قضية
"تي إن تي"؟
مشروع التلفزة الرقمية الأرضية يحمل بعدا سياديا على
مستويين: مستوى تقني لوجستيكي وآخر متعلق بالمضمون.
على المستوى التقني فإن الانتقال من البث الهرتزي إلى
البث الرقمي الأرضي سيتم في 2015، واستعدادا لهذا التاريخ الرئيسي فإن الشركة
الوطنية للإذاعة والتلفزيون قامت إلى حدود اليوم بتغطية 80 في المائة من التراب
الوطني، لكن نسبة التجهيز لدى السكان لا تتعدى 5 في المائة مع أننا على بعد 3
سنوات فقط.
نحن إذن في حاجة
الى عملية أشبه بعملية مارشال لتجهيز البيوت. إذ أن مسألة التجهيز أساسية وتتطلب
إمكانات مالية كبيرة وحلولا عبقرية. فقد سبقتنا دول اخرى في هذا المجال، وكل منها تبنى حلا أو حزمة حلول
لمعضلة التجهيز إما عبر توزيع أجهزة الاستقبال، أو منع دخول التلفزيونات التي لا
تتوفر على "تي إن تي" مدمج، أو سحب الأجهزة من السوق، أو بيع أجهزة
الاستقبال بثمن رمزي... وكلها حلول لها كلفة مالية علما أن الميزانية مثقلة بهموم
أخرى.
في إطار تحقيق الانتقال، اعتمدت البرتغال
على ساعي البريد للوصول الى المناطق النائية لمساعدة الناس في التجهيز والتركيب. وفي
فرنسا ساعدت الدولة في توزيع أجهزة الاستقبال بثمن رمزي هو ثلاثين أورو.
ولابد من الإشارة هنا إلى مذكرة أصدرتها وزارة الصناعة
والتجارة والتكنولوجيا الحديثة، في عهد حكومة عباس الفاسي، تتضمن معايير جديدة
لاستيراد أجهزة التفزيون ذات "تي إن تي" مدمج.
المعادلة واضحة إذن: الحكومة توفر الكلفة المالية،
والشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون تنجز، والهيأة العليا للاتصال السمعي البصري
تقدم الخبرة.
من جهة أخرى فإن المضمون يطرح بدوره مشكلا سياديا، إذ أن
المضمون الضعيف لا يغري بالمشاهدة واقتناء الأجهزة المزودة ب"تي إن تي".
فقناة أفلام مثلا انشأت بميزانية 0 درهم، وبرمجتها لا تضم أفلاما حديثة ولا تشتري
حقوق بث الإنتاجات الهوليوودية الجاذبة لنسب المشاهدة. والقناة الرياضية متوفرة
على الساتل وتقدم البطولة الوطنية على غرار القناتين الأولى والثانية. أما الرابعة
فمسخ تلفزيوني بلا تصنيف.
لقد تعاملت الحكومات المتعاقبة على مدى سنوات مع فيصل
العرايشي، الرئيس المدير العام للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون ورئيس القطب
العمومي ، كالساحر الذي يطلب منه خلق القنوات من العدم. فميلاد القنوات
التلفزيونية كان تنفيذا لسياسة حكومية محضة وليست لحاجيات مجتمعية حقيقية. كما نفذ
الإعلام العمومي على مدى سنوات سياسات عمومية، ورضخ لإملاءات حكومية عجيبة إذ نحن
الوحيدون الذين ينشئون قنوات تلفزيونية بشراكة مع وزارات! (الرابعة مع وزارة التربية
الوطنية، والسادسة مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية).
القنوات الخاصة
هي الحل
من أجل تجاوز معضلة المرور إلى التلفزة الرقمية الأرضية
لابد من الإسراع بإطلاق تراخيص قنوات تلفزيونية خاصة، ومنحها البث الرقمي الأرضي
الذي من مهامه انعاش التلفزة الرقمية الأرضية. ففي فرنسا، التي نستأنس بتجربتها في
العديد من المجالات، لم تكن مؤسسة "فرانس تيليفزيون" الجاذب الوحيد
ل"تي إن تي" بل إن القنوات الخاصة هي التي فتحت شهية الفرنسيين للوافد
الجديد (تي إف 1، وإم 6، ودي 8...).
تحسين المضمون
إضافة إلى منح تراخيص قنوات خاصة لابد أيضا من تطوير
مضمون القنوات العمومية. فالحكامة والتنافسية والجودة شعارات جميلة، لكن المهم هو
كيفية تحقيقها وتنزيلها، فتطوير
مضمون القنوات السبيل إليه هو خلق صناعة تلفزيونية حقيقية.
إن الانتقال الرقمي تحول جوهري في
المجال السمعي البصري بل داخل المجتمع ككل مثله مثل الانتقال الديمقراطي، يجب ألا
يكون مجالا للمزايدات السياسوية.
الجميع إذن يريد أن ينسب الانتقال
الديمقراطي إليه، والمطلوب هو التنزه عن الاستحواذ عليه من طرف الأشخاص أو
الأحزاب. كذلك الأمر بالنسبة إلى ملف التلفزة الرقمية الأرضية الذي أصبح طريدة
تسيل لعاب البعض في حين أن الفاعلين الثلاثة (الحكومة والقطب العمومي والهاكا) معنيون
بهذه الثورة الرقمية بشكل عادل ومتساوي.