القنصليات الأجنبية الموجودة في المغرب المتفرقة في مجموعة من المدن الكبرى، لا يقتصر دورها في توزيع تأشيرات "الجنة الموعودة" فحسب، بل هي إطار لخلق "مناصب شغل" موازية تتبع حاجة الزبائن إلى خدمات معينة ترافق مسيرتهم، وتلبي حاجتهم في يوم "تطير له القلوب شعاعا، وترتجف منه الأوصال ارتجافا".
القنصلية الهولندية في الرباط واحدة من الأماكن التي تنشط حولها تجارة يقتات منها أناس وغدت مصدر رزقهم الأساسي، نظرا للعدد الهائل من "الحجاج" الذين يسعون كل يوم بين مختلف مرافقها ويطوفون مكاتبها ابتغاء مرضاة أهل المكان.
منذ الساعات الأولى من الصباح يحتل مجال حديقة صغيرة خضراء طالبو التأشيرات وعائلاتهم ومرافقوهم في رحلة الشتاء والصيف. ينتشرون فوق العشب "كالجراد المبثوث" في انتظار موعد الدخول إلى القنصلية.
حوالي الثامنة يأخذ شاب في الثلاثينات من العمر مكانه أمام القنصلية، يجلس ثارة على كرسيه الخاص، وثارة أخرى يسير الهوينة في محيط "اختصاصاته"، وكأنها طريقته في تحديد مجاله الذي لا يحق اختراقه من طرف المنافسين وقراصنة الفرص، ومناسبة للاطمئنان على "رعيته" التي تنتظر فرج السماء، عيونها معلقة إلى بارئها، تهمهم الدعوات، وتطلب الفرج، وتتبادل الأمنيات "الله يسهل عليك أولدي ويسهل على جميع المسلمين.. آمين يا رب العالمين".
اسم الشاب الغامض مجهول، ولم أتمكن من التواصل معه لأنه أصم وأبكم، لكن مهمة "ملاك الرحمة" هذا واضحة وجلية. فالرجل يشتغل "عساسا على البورطابلات" وكل الأجهزة الإلكترونية التي يمنع إدخالها إلى القنصلية، لأن المكلفين بالأمن يقومون بتفتيش كل من يلج القنصلية بشكل دقيق وحازم.
أخذ مني الشاب الغامض الهاتف المحمول ومد يده لاستلام المقابل، استفسرته عن المبلغ فوضع الهاتف داخل الكيس البلاستيكي الذي يعج بكل أنواع الهواتف الحديثة الصغيرة وغالية الثمن، وأخرى بئيسة متسخة وكبيرة الحجم. أشار بكل أصابع يده ليحدد 10 دراهم. رق قلبي لحاله فمنحته ما طلب، فرد بابتسامة مرفقة بصوت غريب يعني غالبا كلمة شكر.
إلى جانب "ملاك الرحمة" يوجد شاب آخر يمتهن ملء الاستمارات الخاصة بطلب تأشيرة مجال "شينغن" يخط المعلومات برشاقة، ومحل للمواد الغذائية جل زبائنه من زوار القنصلية يرتجل صاحبه بين الفينة والأخرى صنع "الكاسكروطات" للزبائن الجائعين الذين أنهكهم الانتظار والقادمين من مدن بعيدة ومناطق نائية.
إلى جانب كل هذا يعج المكان بحالات إنسانية ومشاكل اجتماعية، المعقد منها والمضحك والغريب أيضا. وكما تؤلف الأفراح والأقراح بين قلوب المغاربة، فإن دخول القنصلية يجعلك تربط شبكة من العلاقات تشعرك بنوع من الألفة والحميمية التي تنسج خيوطها فجأة وخلسة، ويتبادل الحاضرون الذين يبلغ عددهم حوالي 80 فردا من مختلف الأعمار والشرائح الاجتماعية في غرفة الانتظار، الحديث والقصص والمشاكل، وتصبح تلك القاعة ساحة للمكاشفة والاعتراف، وكأننا داخل دير لغسل الذنوب وتطهير والقلوب أو داخل حجرة سرية أمام قس سيغفر الخطايا بعد أن يسمع اعترافاتنا فيفصح عن العباد المذنبين ليدخلهم أبواب الجنة فيتسلم جوازاتهم بيمينهم من ثقلت موازينهم، في حين تكفهر وجوه من خفت موازينهم وتسلموا جوازاتهم بشمالهم ويمكث آخرون في انتظار حكم الله وقدرهم بقلوب خاشعة تدعو سرا وعلانية، "اللهم ألحقنا بهم مومنين".
إنه يوم عاد من أيام الله أمام القنصلية الهولندية، "يوم لا ينفع مال ولا بنون" إلا من أتى بوثائق سليمة، وحجج مقنعة ووفى شروط التأشيرة.
عندما غادرت القنصلية حوالي الخامسة، استقبلني "ملاك الرحمة" يسألني بإشارة من يده عن مصيري محاولا استقراء النتيجة في ملامح وجهي، فلم ير غير علامات التعب والإنهاك. أفهمته من خلال إشارة من رأسي أني وفقت في الحصول على التأشيرة، فانشرحت سريرته وابتسم ابتسامة واسعة مصطنعة أعطاني هاتفي ومد يده من جديد طلبا في المزيد من المال، فعادة ما يغدق عليه المومنون الذي استلموا جوازاتهم بيمينهم العطاء، ومما رزقهم الله ينفقون، ماداموا "سيدخلون هولندا آمنين". فلم أستطع أن أمنع نفسي من الرد بحركات يفهمها ملاك الرحمة تقول "كرشك كبيرة"، فاختفت ابتسامته البلهاء على الفور.
جمال الخنوسي
fi hadi raw3at riwaya jamila jida
ردحذفشكرا جزيلا على تواصلك
ردحذف9ahrona fdik l9onsolia 3yena bash nayto manhom shi viza watgoool 9atlona gher blawra9
ردحذفtbaRklah a3liik Riwaya jamila jidan achkoRok
ردحذف