كانت تسمية جميلة تلك التي اختارها العالم للثورة التونسية،
وربطها بزهرة الياسمين التي يسمونها أيضا ملكة العطر والسحر والجمال. وبعدها كانت ثورة
الشعب المصري في ميدان التحرير الذي أصبح رمزا لقهر الاستبداد والرغبة في الحرية حتى
الموت. وفي ليبيا كان الفخر يملأ شعبا أسقط الطاغية في فخ مذل، وظهر لأول مرة بهامة
شامخة وطموح في مستقبل زاهر. وفي سوريا يضرب الوهن كل يوم نظام بشار الأسد أكثر
فأكثر.
لكن مع مرور الوقت، بدأت تتبدد تلك الصورة الجميلة للربيع
العربي لتترك مكانها لمظاهر مقززة، مقرفة ومفزعة أيضا: في تونس التي كانت تعتبر
موديلا لتقدم المرأة العربية وتحررها وظفرها بحقوقها المساوية للرجل، ما جعلتها
تثور إلى جانبه لتسقط النظام البوليسي لزين العابدين بن علي، لكن فور نهاية الثورة
طلب منها العودة إلى بيتها لستر عورتها بين الأسوار أو تحت "تشادور". وثارت
ثائرة المتشددين في وجه عداءة اسمها حبيبة غريبي، أنقذت ماء وجه الرياضة التونسية
والعربية عموما حين فازت بفضية ثلاثة آلاف متر موانع، خلال الأولمبياد اللندني
الأخير، بدعوى أنها كانت بملابس فاضحة ! زد على ذلك منع المعارض الفنية والتظاهرات الثقافية، ومحاولة تمرير
القوانين الرجعية، وتكميم أفواه الإعلاميين وجرجرة القنوات التلفزيونية إلى المحاكم
لأنها لا تساير تصورا متطرفا للدين.
وفي مصر، أصبح هوس شعب ميدان التحرير البحث عن الأمن
والأمان، إذ مازال قانون الغاب سائدا، ويتم التحرش بالنساء واغتصاب حرمة أجسادهن
في الطريق العام، كان آخرها ما حدث للفنانة بسمة التي استبيح جسدها حين كانت رفقة
زوجها الناشط السياسي عمرو حمزاوي في مظاهرة نهاية الأسبوع الماضي. ومازال
البلطجية يعيثون فسادا في البلاد، حتى إن رجال الشرطة داهموا فيلا أحدهم ليجدوا في
حديقتها ثلاثة نمور مدربة بل حديقة حيوان بأكملها يستعملها لترهيب خصوم من يدفع
أكثر. وفي هذه الأثناء انشغل الرئيس مرسي ومرشد الجماعة ب"أخونة" مؤسسات
البلاد، وإحكام قبضة التابعين على اقتصادها الرخو، وهو ما فسر خروج المتظاهرين
نهاية الأسبوع الماضي الذين ووجهوا بفتاوى الترهيب والتخوين التي تبيح دم الخارجين
عن "الخليفة".
وفي سوريا ترشق المعارضة التي تحارب في الميدان أقطاب
المعارضة في الخارج بالتهم وتعيب عليها توزيع الغنيمة واستباق النصر على الطاغية
بشار قبل الأوان وهو ما ينذر بانقسام خطير ستكون له حتما عواقب وخيمة.
لقد حررت الثورات الشعوب من الطغاة والمستبدين لكنها لم
تحرر الفكر والعقول، وجعلت البعض يفرض نظرته المريضة إلى التونسية حبيبة غريبي أو
الجزائرية حسيبة بولمرقة أو المغربية نوال المتوكل على الآخرين.
اختفى الوجه الجميل للثورة، وتوارت عن الأنظار الملامح
السمحة لوائل غنيم، المدير الإقليمي في شركة غوغل، الذي أجج ميدان التحرير، ولم
يعد أحد يذكر البوعزيزي الذي أشعل ذاته من أجل لقمة العيش، وليس من أجل لوحات
تشكيلية اتهمت بمناهضة الدين. وجاءت بدل كل هذا اللحي المشذبة، وزبيبات الصلاة،
التي تتاجر بالدين دون أن تمتلك برنامجا اقتصاديا ولا اجتماعيا ولا سياسيا واضحا.
ومع ذلك، وبعد أن أسقطت أصنام القهر والاستبداد، تتفنن الشعوب العربية كل يوم في
صناعة "الفراعين" الجديدة على حد قول الصحافي الكبير عادل حمودة.
جمال الخنوسي