كتب عبقري المسرح وليام شكسبير في مسرحيته "يوليوس قيصر" تحذيرا شديد اللهجة على لسان أحد الشخوص، "احذر من كاسيوس.. إنه رجل لا يحب الموسيقى". ويؤكد شكسبير من خلال مقولته أن من لا يحب الموسيقى إنسان غير سوي يجب مراقبة سلوكاته التي لا يؤتمن إليها ولعواقبها الوخيمة. فمن لا يحب الموسيقى في نظر شكسبير لا يحب الثقافة والفن والجمال والحياة نفسها.
بعض أتباع "كاسيوس"، من أعداء الفن والموسيقى داخل الاحتجاجات التي يعرفها الشارع المغربي، من أصحاب الخلفيات المعروفة، جعلت من التظاهرات الثقافية هدفا لها للقضاء على آخر مظاهر البهجة والفرح والحياة التي يمكن أن ينعم بها المغاربة، وفي الآن ذاته تمجد مظاهر الموت وحرق الذات باسم الاحتجاج والثورة، معتبرة وأد الثقافة ومظاهر البهجة المفتاح الذي سيحل العقد ويذلل العقبات ويقضي على مظاهر التخلف التي تنخر جسد المجتمع.
لست أدري لماذا تدفع الثقافة دائما ثمن أي خلاف باعتبارها الحيط القصير الذي يقفز عليه الجميع من أجل الوصول إلى الأهداف أو تحقيق النوايا مهما كانت قيمتها، وبالتالي يسقط دائما الفن والثقافة في خانة المكملات والأمور الثانوية حد الاحتقار، أو كما يقول المغاربة بدارجة فصيحة "خضرة فوق طعام".
ولهذا شنت الجهات إياها هجومات دونكيشوطية وصلت حد التهديد بنسف المهرجانات الفنية، وضرب الفنانين المشاركين في مهرجان موازين مثلا بالبيض الفاسد والطماطم المتعفنة! بل وصل الحد ببعض شيوخ الرضاعة المتأخرة وثوار منتصف الليل إلى تشبيه مهرجان موازين بمعتقل تمارة !
إنه خلط شنيع لمفهوم الثقافة والترفيه، والسكوت على مثل هذه الترهات والتجاوزات التي تحدث باسم التغيير، وباسم عشرين فبراير، أمور لا يمكن تجاهلها أو التساهل فيها، لأنها وصلت حد التحريض وما أدراك ما التحريض في وقت يصمت فيه السياسيون ومسؤولون للدفاع عن حق المواطن المغربي في موازين والبولفار والمهرجانات السينمائية والمسرح والتشكيل. والخوف كل الخوف أن يبقى هذا الصمت مطبقا إلى حين يصبح فيه سماع لطيفة رأفت وعبد الوهاب الدكالي، والستاتي حتى، رجعية وسلوكا ضد الثورة، وسيصبح المسرح والسينما برابغندا مخزنية ومضيعة للوقت، والثقافة برمتها بذخا وتبذيرا للمال العام.
إن الثقافة ضرورة حيوية وليست مكملا، ولا يمكن أن ننتظر أن يصبح المغرب مثله مثل سويسرا حتى تصبح لنا من جديد أنشطة ثقافية، ويغدو لنا مسرح وسينما وغناء وتشكيل، فالمغربي السوي في حاجة إلى المدرسة والمستشفى ودار المسرح وقاعة السينما على حد سواء حتى نبني مواطن الغد.
من واجبنا أن نصرخ ونسمع صوتنا لنقول ما نفكر فيه أيضا دون أن يتملكنا الخوف من نعتنا ب"أبواق المخزن" أو "بلطجية الإعلام". من واجبنا أن نقول رأينا دون الانسياق اليوم وراء ما أصبح يقال عنه بle politiquement correcte وأن نداعب بعض شعور المجلجلة (من الجيل) واللحي المنسدلة التي ترى أن الثورة وباء معد أو حصبة شديدة الانتقال. وعلينا جميعا أن نرفع صوتا مختلفا ونغمة "نشاز" في وقت يعزف فيه الجميع مقطوعة وحيدة، فليس على أمة من خطر أكثر من عزف الجوقات للمقطوعة ذاتها.
حقيقة.. من العار أن يكون بيننا أناس يحتقرون الثقافة إلى هذا الحد.
جمال الخنوسي