أسال التقرير السنوي الذي أصدرته الهيأة العليا للاتصال السمعي
البصري، أخيرا، حول "مداخلات الشخصيات العمومية في وسائل الاتصال السمعي البصري" لسنة 2011،
الكثير من المداد، واكتفت جل الكتابات والتحاليل بتقديم قراءة سياسية أو سياسوية
حول النتائج والمعطيات الواردة فيه. فتحدث البعض عن هيمنة الحكومة وأحزاب الأغلبية
على الإعلام العمومي، وخلط "عنوة" بين حكومة عباس الفاسي وحكومة عبد
الإله بنكيران رغم أن التقرير يتحدث صراحة عن حكومة وأغلبية سنة 2011، في حين ذهب
آخرون إلى الحديث عن هيمنة لحزب الأصالة والمعاصرة على التلفزيون رغم أنه حزب ينتمي
للمعارضة وفي سنة ربيع عربي أوقف تشغيل محرك الترتراكتور، في المقابل جنح البعض
الآخر إلى إلقاء اللوم على الهاكا بسبب عدم تقديمها إحصائيات خاصة ب"مرور
الملك في التلفزيون" مع أنه خارج المعادلة أساسا وغير معني بتجاذبات الأغلبية
والمعارضة... وغيرها من القراءات التي كان
همها الأساسي البحث عن موضع قدم مؤسساتي للسياسي بالإعلام وكأن هذا الأخير لم يخلق
وفق النموذج المغربي، إلا ليرضي السياسي أولا وأخيرا.
والحقيقة أن بناء هذا التعارض التبسيطي يحمل بين طياته
مغالطات وتمويهات لا تخدم القضية الإعلامية بالمرة، إذ أن صلب المعادلة لا يجب أن
يبنى على الوقوف إلى جانب السياسي أو جلد المؤسسة الإعلامية أو هما معا، بل يجب أن
يبنى على الانتصار للمشاهد أولا وأخيرا الذي من أجله وضع مبدأ التعددية. وبالتالي
لم يكن اعتباطيا ولا من باب الترف
المؤسساتي أن تختار الهاكا افتتاح تقريرها المذكور بمقتطف من قرار المجلس الأعلى للاتصال
السمعي البصري رقم 46-06 الصادر في 6 شتنبر 2006، الذي تبنى على أساسه المعياري كل
هذه الإحصائيات والذي جاء فيه "لا تعتبر التعددية، مهما كان مضمونها وشكلها،
هدفا في حد ذاته، بقدر ما هي وسيلة أقرها المشرع ضمانا لإخبار مستوف ونزيه للمشاهد
والمستمع. فهي ليست حقا للفاعلين السياسيين والاجتماعيين على متعهدي الاتصال
السمعي البصري فحسب، بل هي أساسا حق للمواطن يوجب على المتعهدين أن يقدموا للجمهور
إعلاما نزيها ومحايدا وموضوعيا يحترم حقه في الاطلاع على الآراء المختلفة وتنوع
مصادر الخبر لكي تتوفر لديه كل العناصر التي تسمح له بتشكيل آرائه وقناعاته الخاصة
بكل حرية وموضوعية". بعبارة أخرى، التلفزيون ليس مجرد غنيمة للأحزاب السياسية
ولا صندوقا بريديا لإيداع خطاباتها العتيقة، كما أن التلفزيون العمومي يجب أن يعي أنه
لا يبث مجلاته ونشراته الإخبارية فقط لإرضاء الأحزاب السياسية وجبر خواطرها، بل أساسا
لتنوير المواطنين أولا في اختياراتهم ومساعدتهم على تكوين رأيهم بكل حرية عن طريق
الرأي والرأي الآخر.
وكما يتهم السياسي الإعلام العمومي بالانحياز أو ضرب
التعددية استنادا إلى مضامين التقرير، فإن التلفزيون العمومي يحمل بدوره المسؤولية
للأحزاب السياسية التي يزهد بعضها في حصته ويرفض الظهور في التلفزيون، إما لأنها لا
تحمل خطابا مقنعا أو ليست لها وجوه قادرة على المحاججة التلفزيونية المباشرة، أو
وبكل بساطة، نشاطاتها تتسم بالموسمية.
إن تقرير الهاكا ليس خنجرا يتبادل به السياسي والمتعهد
العمومي الطعنات، أو منجنيقا للقصف والقصف المضاد، بل هو تيرموميتر للتعرف على مستوى
وعينا بتدبير التعددية السياسية في الإذاعة والتلفزيون وأداة لتمكين الجميع من طرح
الأسئلة المناسبة والصحيحة في أفق تحسين هذا الوضع.
إن حق السياسي الذي ينتمي إلى الأغلبية مكفول في الإعلام
استنادا إلى دفاتر تحملات الإعلام العمومي وقرارات الهاكا، كما هو الشأن بالنسبة إلى
حق المعارضة خصوصا بعدما نص دستور المملكة على حقها في الإعلام بما يتناسب
وتمثيليتها، وبالتالي فما يلزم اليوم ليس الوقوف في حدود الأرقام والإحصائيات، خصوصا
وأنها كما يقول علماء الإحصاء "حمالة أوجه"، بل السير نحو تكوين وعي
بأهمية الوسائل السمعية البصرية، باعتبارها رافعة أساسية من روافع التغيير
الإيجابي المنشود من طرفي المعادلة (الإعلامي والسياسي) ويصبح هذا الوازع حاضرا
دائما في مسارها وأدائها، وحينها سيتحقق التوازن واحترام التعددية المنشودة بشكل
تلقائي وعفوي، من خلال منح الكل حق الولوج المنصف إلى وسائل الإعلام، لأنها ستتحول
من نسب وأرقام وإحصاءات وترسانة قانونية ومعيارية وتنظيمية إلى وعي جمعي، ولعل في
بعض الإذاعات الخاصة كما جاء في التقرير، إسوة حسنة، فبإمكانيات محدودة على عكس
تلك التي يتوفر عليها الإعلام العمومي، تمكنت من الاقتراب بشكل كبير من تحقيق
التوازن على مستوى متابعة وتغطية الشأن السياسي.
جمال الخنوسي