الكاتب إدريس جسوس : قصة حقيقية لشاب انتهى باكرا
حضرت للمعرض الدولي للنشر و الكتاب بالدار البيضاء في دورته 12 سيدة اسمها فوزية العلمي . ليست كاتبة تلقي المحاضرات و لا شاعرة تقدم الدواوين و لا روائية جاءت لتوقع آخر إصداراتها ولا ناشرة تعقد الصفقات ولا زائرة كباقي الزائرات إنها فقط أم . صفة سامية تلتصق بهذه السيدة و تتجاوزها. جاءت لتقدم كتابا كل كلماته تحتضنها بالرغم من أنه باسم كاتب ، اسم لا يشبه اسمها. اسم يقطع أحشاءها و يدمي قلب الأم الذي تحكى عنه الحكايات و تروى فيه الروايات.
الكاتب الذي جاءت تحدثنا عنه فوزية العلمي شاب رحل عن هذه الدنيا منذ 4 سنوات. متفتح ذكي و مرهف الاحساس كان يتنبأ له الكل بمستقبل زاهر وواعد فتى يفيض إحساسا و شاعرية ولد في 11 يناير سنة 1965 بالدار البيضاء و عاش في طنجة أغلب سنوات حياته . عمل في الإشهار و الصحافة. وكتب سيرته الذاتية تحت عنوان "لذة ماكرة" بدار النشر إيديف سنة 1996 .
يحكي في هذا الكتاب بداياته الأولى ، طفولته السعيدة في كنف والديه و معاناته بعد ذلك من طلاقهما و تمزق العائلة يقول : "زمان و مكان مرتبط بشكل وثيق بسعادة عائلة موحدة لكن للأسف سعادة زائلة" و يقول في موضع آخر "كنا إذاك أسرة سعيدة". يتحدث عن أخته لطيفة و سعادته بميلادها في حنان و كأنتها ابنته .٠ لطيفة التي يسميها في ظرف و شقاوة "تانتان". يحكي عن مغامراته المدرسية و يجعلك تتعاطف مع بشكل قوي لأن شقاوة إدريس تشبه شقاوة كل الأطفال و كل الشبان في سنه.
انفتح قلبه على الحب و المغامرة ، و مع الحب دخل عالم المخدرات القاتم . لاحظت الأم على ابنها انقلابا في سلوكه و شخصيته . أصبح إدريس صامتا متكاسلا سلبيا، أصبح نومه يدوم أياما و عصبيته بلاحدود. احتارت في أمره و لم تعرف ما يجري أو تفسر هذا الانقلاب الذي عرفه. فقد شهية الأكل و الحياة ، غدى عنيفا ، لا يأكل و لا يغتسل حتى. يحكي ادريس قصته مع المخدرات كما تحكى قصص الحب الحزينة التي تنتهي نهاية مأساوية. يكلمها يحبها يعشقها يجافيها لكن هي ملحة على اقتناصه و إدخاله في شباكها تستقبله دائما بدراعين مفتوحتين و حضن مسموم "لم أرد قط إخفاء إدماني و لم أكن قط خجلا و لم أقصد استعراضه من أجل إسعاد الفضوليين. أردت فقط أن أحكي قصة حياتي كأي سيرة ذاتية أخرى و إن كان حضور المخدرات يعم أغلب الصفحات فذلك لأنها و صمت حياتي و وجودي للأبد". لقد حولت هذه العشيقة صاحبة الرداء الأبيض الطفل الشقي لمهرج تعيس.
الكتاب صرخة في وجه الصمت المطبق حول موضوع المخدرات في المغرب و كأنها آفة لا تصيب إلا الآخر . آفة يلفها الخجل و الحشومة و العار طابو من طابوهاتنا الممتدة و المتعددة التي تملأ حياتنا ظلاما و تزيد مشاكلنا ضراوة و عمقا. كتابات إدريس صرخة في وجه طابو مغربي مايزال ينعت بالعار و الحشومة طابو اسمه المخدرات لا نعرف عنه إلا القليل لأنه آفة لا تصيب سوى "الآخر" كما نظن جميعا. لقد استطاع أن ينزع القناع نيابة عنا جميعا و يقول بوجه مكشوف مالم يستطع أحد أن يهمس به من قبل. لقد أعطى إدريس للمعاناة وجها بلا خوف أو وجل و منح للمخدرات صورة سلاحة قلمه.
"لم أكتب هذا الكتاب إلا لنفسي ، و لن ينفع كمثال لأي شخص آخر لا لكوني مثالا سيئا كما دؤب على قول ذلك الآخرون و لا أيضا لأن تجربتي لن تفيد شخصا آخر .. إن هذا خطئ .. لأنه و ببساطة لا يوجد أي حل (معجزة) لآفة المخدرات . فلكل نوع من المخدرات مرضه و حل كامن ينبغي العثور عليه بشكل فردي."
تقول فوزية العلمي إن كتابه الاخير "سفر بلاحدود" هو عبارة عن كتابات سطرها إدريس على أوراق بيضاء أفرغ عليها معاناته و فجر عليها اسئلته الوجودية حول الحياة و الموت البداية و النهاية و هدف الانسان و كنه الانتقال للضفة الاخرى النور و الظلام. سطور و أسئلة خطها في حرقة. الكتاب موجه للآباء و الأمهات الذين يعانون ظروف كالتي تخبطت فيها وحيدة و بلا سند بعد أن كان أقاربها يطلبون منها أن تدع فلذة كبدها و "أن تديها في راسها" مادام ابنها مدمنا و معتوها. لم تجد العزاء إلا في أناس مميزين كابنتها لطيفة و أطباء و ممرضات إدريس باحثة عن الخلاص لها و لابنها الذي كانت تراه ينطفئ كالشمعة أمام عينيها. طافت به المراكز ضاقت بها الدنيا و رحلت به لإسبانيا . انتقلت بين المراكز تبحث له عن شفاء . تريد استرجاع ابن سرق منها بشكل بشع .. حاضر غائب ينقطع عن إدمانه فيطفو الأمل . ثم يعود لظلام المخدرات الدامس و كانت النهاية ... رحل إدريس و ترك أما تبكي حبها لطفل اختطفه الموت و المخدرات .. رحل إدريس و ترك قصائد و نصوص إرثا و حيدا لأمه عسى تعوضها رحيله. و هل تعوض الكلمات عناق الابن و قبلته ورائحة عنقه.
عانت مدة أربع سنوات قبل أن تأخذ قرار نشر قصائده في كتاب "سفر بلاحدود" كان بالنسبة لها أجمل خطوة تتخذها لتكريم ابنها و التعبير له عن مدى حبها له. و في نفس الوقت هو تحدي للموت الذي ستجعله لن يطال اسم إدريس و ستخلده بكتاب . أوليس داخل كل كاتب رغبة في الأبدية و الدوام و الامتداد.
في افتتاحية كتابه الأخير "سفر بلاحدود" نجد هذه القصيدة لهنري سكوت هولند تحت عنوان "لا تبكي إن كنت تحبني" :
"الموت ليس بشيء
لقد انتقلت فقط للضفة الأخرى
أنا من أنا وأنت من أنت
ما كنا نمثله لبعضنا لازلنا نمثله لحد الآن
أعطيني الإسم الذي منحتني إياه دوما
حديثيني كما كنت تحديثني
لا تلبسي ثوب الحزن والرسميات
واصلي الضحك كما كنا نفعل.
صلي واضحكي وفكري معي وصلي معي
على أن يتواصل تداول اسمي في البيت كما كان دوما
دون إحراج ودون بصمة ظل
الحياة تعني ما كانت تعنيه دوما
إنها بنفس تعريف الماضي، فالخيط لم ينقطع
لماذا أخرج من تفكيرك، هل لأنني ببساطة في منأى عن نظرك؟
لا، أنا لست بعيدا، أنا فقط في الضفة الأخرى من الطريق.. هل ترين، كل شيء على ما يرام
ستجدين قلبي
وستجدين دفئي
إذن، من فضلك، جففي دموعك
ولا تبكي إن كنت تحبيني"
رحل إدريس في 21 نونبر 2001 عن سن يناهز 35 سنة .
جمال الخنوسي
حضرت للمعرض الدولي للنشر و الكتاب بالدار البيضاء في دورته 12 سيدة اسمها فوزية العلمي . ليست كاتبة تلقي المحاضرات و لا شاعرة تقدم الدواوين و لا روائية جاءت لتوقع آخر إصداراتها ولا ناشرة تعقد الصفقات ولا زائرة كباقي الزائرات إنها فقط أم . صفة سامية تلتصق بهذه السيدة و تتجاوزها. جاءت لتقدم كتابا كل كلماته تحتضنها بالرغم من أنه باسم كاتب ، اسم لا يشبه اسمها. اسم يقطع أحشاءها و يدمي قلب الأم الذي تحكى عنه الحكايات و تروى فيه الروايات.
الكاتب الذي جاءت تحدثنا عنه فوزية العلمي شاب رحل عن هذه الدنيا منذ 4 سنوات. متفتح ذكي و مرهف الاحساس كان يتنبأ له الكل بمستقبل زاهر وواعد فتى يفيض إحساسا و شاعرية ولد في 11 يناير سنة 1965 بالدار البيضاء و عاش في طنجة أغلب سنوات حياته . عمل في الإشهار و الصحافة. وكتب سيرته الذاتية تحت عنوان "لذة ماكرة" بدار النشر إيديف سنة 1996 .
يحكي في هذا الكتاب بداياته الأولى ، طفولته السعيدة في كنف والديه و معاناته بعد ذلك من طلاقهما و تمزق العائلة يقول : "زمان و مكان مرتبط بشكل وثيق بسعادة عائلة موحدة لكن للأسف سعادة زائلة" و يقول في موضع آخر "كنا إذاك أسرة سعيدة". يتحدث عن أخته لطيفة و سعادته بميلادها في حنان و كأنتها ابنته .٠ لطيفة التي يسميها في ظرف و شقاوة "تانتان". يحكي عن مغامراته المدرسية و يجعلك تتعاطف مع بشكل قوي لأن شقاوة إدريس تشبه شقاوة كل الأطفال و كل الشبان في سنه.
انفتح قلبه على الحب و المغامرة ، و مع الحب دخل عالم المخدرات القاتم . لاحظت الأم على ابنها انقلابا في سلوكه و شخصيته . أصبح إدريس صامتا متكاسلا سلبيا، أصبح نومه يدوم أياما و عصبيته بلاحدود. احتارت في أمره و لم تعرف ما يجري أو تفسر هذا الانقلاب الذي عرفه. فقد شهية الأكل و الحياة ، غدى عنيفا ، لا يأكل و لا يغتسل حتى. يحكي ادريس قصته مع المخدرات كما تحكى قصص الحب الحزينة التي تنتهي نهاية مأساوية. يكلمها يحبها يعشقها يجافيها لكن هي ملحة على اقتناصه و إدخاله في شباكها تستقبله دائما بدراعين مفتوحتين و حضن مسموم "لم أرد قط إخفاء إدماني و لم أكن قط خجلا و لم أقصد استعراضه من أجل إسعاد الفضوليين. أردت فقط أن أحكي قصة حياتي كأي سيرة ذاتية أخرى و إن كان حضور المخدرات يعم أغلب الصفحات فذلك لأنها و صمت حياتي و وجودي للأبد". لقد حولت هذه العشيقة صاحبة الرداء الأبيض الطفل الشقي لمهرج تعيس.
الكتاب صرخة في وجه الصمت المطبق حول موضوع المخدرات في المغرب و كأنها آفة لا تصيب إلا الآخر . آفة يلفها الخجل و الحشومة و العار طابو من طابوهاتنا الممتدة و المتعددة التي تملأ حياتنا ظلاما و تزيد مشاكلنا ضراوة و عمقا. كتابات إدريس صرخة في وجه طابو مغربي مايزال ينعت بالعار و الحشومة طابو اسمه المخدرات لا نعرف عنه إلا القليل لأنه آفة لا تصيب سوى "الآخر" كما نظن جميعا. لقد استطاع أن ينزع القناع نيابة عنا جميعا و يقول بوجه مكشوف مالم يستطع أحد أن يهمس به من قبل. لقد أعطى إدريس للمعاناة وجها بلا خوف أو وجل و منح للمخدرات صورة سلاحة قلمه.
"لم أكتب هذا الكتاب إلا لنفسي ، و لن ينفع كمثال لأي شخص آخر لا لكوني مثالا سيئا كما دؤب على قول ذلك الآخرون و لا أيضا لأن تجربتي لن تفيد شخصا آخر .. إن هذا خطئ .. لأنه و ببساطة لا يوجد أي حل (معجزة) لآفة المخدرات . فلكل نوع من المخدرات مرضه و حل كامن ينبغي العثور عليه بشكل فردي."
تقول فوزية العلمي إن كتابه الاخير "سفر بلاحدود" هو عبارة عن كتابات سطرها إدريس على أوراق بيضاء أفرغ عليها معاناته و فجر عليها اسئلته الوجودية حول الحياة و الموت البداية و النهاية و هدف الانسان و كنه الانتقال للضفة الاخرى النور و الظلام. سطور و أسئلة خطها في حرقة. الكتاب موجه للآباء و الأمهات الذين يعانون ظروف كالتي تخبطت فيها وحيدة و بلا سند بعد أن كان أقاربها يطلبون منها أن تدع فلذة كبدها و "أن تديها في راسها" مادام ابنها مدمنا و معتوها. لم تجد العزاء إلا في أناس مميزين كابنتها لطيفة و أطباء و ممرضات إدريس باحثة عن الخلاص لها و لابنها الذي كانت تراه ينطفئ كالشمعة أمام عينيها. طافت به المراكز ضاقت بها الدنيا و رحلت به لإسبانيا . انتقلت بين المراكز تبحث له عن شفاء . تريد استرجاع ابن سرق منها بشكل بشع .. حاضر غائب ينقطع عن إدمانه فيطفو الأمل . ثم يعود لظلام المخدرات الدامس و كانت النهاية ... رحل إدريس و ترك أما تبكي حبها لطفل اختطفه الموت و المخدرات .. رحل إدريس و ترك قصائد و نصوص إرثا و حيدا لأمه عسى تعوضها رحيله. و هل تعوض الكلمات عناق الابن و قبلته ورائحة عنقه.
عانت مدة أربع سنوات قبل أن تأخذ قرار نشر قصائده في كتاب "سفر بلاحدود" كان بالنسبة لها أجمل خطوة تتخذها لتكريم ابنها و التعبير له عن مدى حبها له. و في نفس الوقت هو تحدي للموت الذي ستجعله لن يطال اسم إدريس و ستخلده بكتاب . أوليس داخل كل كاتب رغبة في الأبدية و الدوام و الامتداد.
في افتتاحية كتابه الأخير "سفر بلاحدود" نجد هذه القصيدة لهنري سكوت هولند تحت عنوان "لا تبكي إن كنت تحبني" :
"الموت ليس بشيء
لقد انتقلت فقط للضفة الأخرى
أنا من أنا وأنت من أنت
ما كنا نمثله لبعضنا لازلنا نمثله لحد الآن
أعطيني الإسم الذي منحتني إياه دوما
حديثيني كما كنت تحديثني
لا تلبسي ثوب الحزن والرسميات
واصلي الضحك كما كنا نفعل.
صلي واضحكي وفكري معي وصلي معي
على أن يتواصل تداول اسمي في البيت كما كان دوما
دون إحراج ودون بصمة ظل
الحياة تعني ما كانت تعنيه دوما
إنها بنفس تعريف الماضي، فالخيط لم ينقطع
لماذا أخرج من تفكيرك، هل لأنني ببساطة في منأى عن نظرك؟
لا، أنا لست بعيدا، أنا فقط في الضفة الأخرى من الطريق.. هل ترين، كل شيء على ما يرام
ستجدين قلبي
وستجدين دفئي
إذن، من فضلك، جففي دموعك
ولا تبكي إن كنت تحبيني"
رحل إدريس في 21 نونبر 2001 عن سن يناهز 35 سنة .
جمال الخنوسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق