05‏/05‏/2010

المأزق المهني بين المساءلة السياسية والتأطير القانوني

الحوار الوطني كشف تباين وجهات النظر وسوق إعلاميا بناء على رمزية المكان

همت جلسات الحوار على مدى جميع الجلسات محاور تتقاطع عند مسألتين أساسيتين: أولا، كيفية ضبط الصحافة المكتوبة، وثانيا كيفية ضبط القطاع السمعي البصري. وانطلقت الجلسات بمشاركة فاعلين مهنيين وسياسيين وحقوقيين وممثلي الإذاعات ومجلس المنافسة... يجمعهم الوعي بهذا الرهان المستقبلي الهام.
وفي ما يخص الصحافة المكتوبة كان هناك إجماع على وجود حالة من التوتر بين الصحافة من جهة والدولة من جهة أخرى، يتجلى في ثلاثة معالم كبرى هي أولا، المأزق الذي يوجد فيه حاليا مشروع تعديل قانون الصحافة الذي مازال يراوح مكانه منذ مدة، ولم يخرج بعد إلى حيز الوجود. ثانيا، الأحكام أو العقوبات الحبسية والمالية التي صدرت في حق مجموعة من الصحافيين، وثالثا، المأزق الذي توجد فيه فكرة إحداث مجلس وطني للصحافة.
كل هذه العناصر مجتمعة، أكدت وجود أزمة عميقة لا بد من الخروج منها، فكانت محاولة وزارة الاتصال للخروج منها، وتمثلت في النداء إلى فتح حوار بين الدولة والصحافة في شتنبر الماضي، لكنها فكرة لم تتحقق على أرض الواقع لأن الطبقة السياسية ارتأت أن مثل هذا الحوار الذي تريد وزارة الاتصال أن تقوده، لا يمكن أن يعطي نتائج أكبر مما خرجت به المناظرة الوطنية الأولى حول الصحافة في ماي 2005، بعهد الوزير نبيل بن عبد الله، وبالتالي ارتأوا أن تنقل الفكرة إلى مكان آخر، وبالضبط إلى البرلمان، على أساس أن تكون المبادرة هذه المرة مبادرة لثلاثة فرق برلمانية هي الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال والأصالة والمعاصرة. ويستبدل العنوان من علاقة الصحافة والدولة بعلاقة الصحافة والمجتمع.
وتم "تسويق" هذه المبادرة اعتبارا لما سمي رمزية المكان، أي قبة البرلمان. كما تم تعويم الفكرة من حوار الصحافة والدولة إلى حوار الصحافة والمجتمع من أجل تقليص توتر أعصاب جميع الأطراف وامتصاص الغضب.
وانطلق الحوار بغض النظر عن كل تلك الآراء التي قدمت حينها حول مدى قانونية هذه المبادرة وأهدافها العلنية والمضمرة، ومن هم الواقفون وراءها حقيقة. وظهرت خلال المناقشة ثلاثة اتجاهات أساسية: أولا، جهة تدافع عن إحداث مجلس وطني للصحافة يجب إخراجه إلى حيز الوجود بالصيغة التي تحدث بها عنه مشروع قانون الصحافة، لأن المشروع تحدث سلفا عن المجلس. ثانيا، جهة ترى أن المجلس الوطني للصحافة يجب أن ينص عليه في قانون خاص، وثالثا، جهة أخرى ترى أن الصحافة ليست في حاجة إلى مجلس وطني وإنما تكتفي بالتنظيم الذاتي، وإحداث مجلس مهني وتفعيل المؤسسات الموجودة أصلا كما هو الشأن بالنسبة إلى الهيأة الوطنية المستقلة لأخلاقيات المهنة وحرية التعبير التي يرأسها أحمد مشيشي، والتي أحدثت سنة 2005 وظلت حبرا على ورق. علما أنها تجمع في عضويتها ممثلين عن الصحافة والناشرين واتحاد كتاب المغرب وبعض الفاعلين في هذا المجال. وكذا تفعيل ميثاق الأخلاقيات وعقد البرنامج الموقع بين الدولة والصحافة.
وفي السياق ذاته، استغلت الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري فرصة مشاركتها في هذه الجلسات العادية للتأكيد على الرأي الذي سبق أن أعلنت عنه بخصوص ما سبق أن راج من إمكانية إلحاق الصحافة المكتوبة بالهاكا، إذ أكد أحمد الغزلي رئيس الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري في حوار سابق مع "الصباح" أن هذا أمر لا يعني الهاكا لعدة أسباب: الأول أن لنا قضايا مختلفة ومعقدة نخوض فيها الآن لا تترك لنا المجال للاهتمام بمجال آخر، تماما كما يحدث في بعض المجالس الإفريقية وكذا المجلس البرتغالي، التي تجمع بين تقنين السمعي البصري وتقنين الصحافة المكتوبة، حيث تخصص هذه المجالس 80 في المائة من المجهود في تقنين الصحافة المكتوبة دون تحقيق نتيجة تذكر كفيلة برفع المستوى، بل أكثر من هذا، يؤثر هذا المجهود بشكل سلبي على عملها الخاص لتقنين السمعي البصري. إن تقنين السمعي البصري من جهة، وتقنين الصحافة المكتوبة من جهة أخرى، شقان تحكمهما عناصر وخصوصيات متباينة ولا يمكن بأي شكل من الأشكال الجمع بينهما"، ثم يضيف، "نحن نرى الحل لهذا الإشكال العويص في إيلاء سلطة التقنين الذاتي لمهنيين سابقين (نوع من الحكماء) يتميزون بسمعة ومكانة اعتبارية داخل الجسم الصحافي، لأن المشكل الحقيقي والتحدي الكبير يكمن في توفير الشروط الضرورية لتمتيع الهيأة المعنية بتقنين الصحافة المكتوبة بالشرعية والمصداقية اللازمتين".
أما الموضوع الثاني المتعلق بتنظيم قطاع الاتصال السمعي البصري، فقد تم الوقوف عند حصيلة 10 سنوات من تحرير السمعي البصري التي يمكن إجمالها في إعادة هيكلة القطاع البصري العمومي بإدماج القناة الثانية والشركة الوطنية ضمن قطب واحد بغية الوصول إلى نوع من التكامل والتوافق بين القنوات، وتسوية وضعية إذاعة ميدي 1 ومحطة "سوا" من خلال إحداث دفاتر تحملات، وخلق إذاعات خاصة جديدة بلغ عددها لحدود اليوم 14 محطة خاصة بين الجيل الأول من تراخيص الهاكا والجيل الثاني، إذ أصبح بإمكان المواطن المغربي أينما وجد داخل التراب المملكة الولوج إلى ست إذاعات على الأقل. كما شهدت العشر سنوات الأخيرة تنوعا في العرض التلفزي العمومي من خلال إضافة قناة "أفلام" والأمازيغية و"الرياضية" و"المغربية" و"الرابعة" و"السادسة" وتحويل "ميدي 1 سات" إلى قناة عمومية بعد أن كانت قناة خاصة (يتوفر المغرب اليوم على تسع قنوات تلفزيونية عمومية و15 محطة إذاعية عمومية). هذا إضافة إلى تقوية احترام أخلاقيات المهنة إذ سبق للهيأة العليا للاتصال السمعي البصري أن أصدرت مجموعة من القرارات بهذا الخصوص سواء في حق الإذاعات أو القنوات التلفزيونية (أصدرت الهاكا حوالي 250 قرارا). كما تحقق خلال هذه الفترة احترام تعددية التعبير، خصوصا من خلال قراري الهاكا المتعلقين بتدبير التعددية السياسية في الإذاعة والتلفزة خلال الفترة الانتخابية وخلال الفترة العادية. وبين هذا وذاك أصبح المستهلك للإذاعة والتلفزة خلال الآونة الأخيرة في قلب المعادلة السمعية البصرية إذ لم تعد الإذاعة صوتا ل"المخزن" بل صوتا للمسمعين.
لكن إلى جانب كل هذه المكتسبات، بقيت العديد من الإشكاليات العالقة التي حظيت بمناقشات مستفيضة خلال جلسات الحوار الوطني حول الإعلام والمجتمع، منها ماهية المرفق العام (أي كيفية المزاوجة بين مهمة المرفق العام والاستجابة لانتظارات المعلنين الذين هم في واقع الأمر يمولون القناة، حالة دوزيم مثلا)، وسؤال الجودة (ما معنى الجودة؟ هل هي تحسين للذوق؟ أي ذوق؟ ما علاقة النظرة الذاتية بالموضوعية؟)، وسؤال المنافسة الأجنبية للقنوات المحلية (هل يجب تسليح قنواتنا بالإمكانات المادية نفسها التي في حوزة منافسيها أم علينا خلق استراتيجية مختلفة والمراهنة على القرب؟)، وسؤال مدى احترام التعددية. وكلها ورشات مفتوحة تحتاج بدورها إلى مناظرات وجلسات حوار جديدة.
جمال الخنوسي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق