22‏/04‏/2012

الإعلام العمومي بين هيمنة الحكومة ووصاية الدولة


أثارت دفاتر التحملات الخاصة بقنوات التلفزيون العمومي زلزالا غير مسبوق داخل الأوساط الإعلامية والسياسية بسبب توجهاتها التي اعتبرها البعض تدخلا في صلب عمل المهنيين، فيما رأي فيها آخرون تصريفا لتصور حزبي سيتم تعميمه على المجتمع بلبوس "الشفافية والحكامة". 
لقد كانت خطوة مصطفى الخلفي، وزير الاتصال غير محسوبة، إذ أن التلفزيون ليس جمعية أو حزبا بل مؤسسة اقتصادية يجب أن تضمن شروط الاستمرارية. لنضع أمام أعيننا أن المغاربة سيفرون من تلفزيون جدي أكثر من اللازم، ومن النقاش السياسي المفرط وغياب الترفيه والمتعة في التلفزيون. يقول الأمريكيون إن التلفزيون هو أولا وقبل كل شيء "إنترتايمنت" أي ترفيها. فشباب الفايسبوك لا تعنيه دفاتر تحملات الخلفي وما سينتج عنها من برمجة جافة، فالمرفق العمومي يجب أن يجد فيه الجميع، وبلا استثناء نفسه، والمهنيون (الذين يقولون إنه تم إقصاؤهم) الأكثر دراية بالموضوع، أما الوزير فيسطر الاستراتيجيات الكبرى للدولة ولا يدخل في تفاصيل التفاصيل (يمكن الإحالة هنا على فصل يتحدث عن ضرورة حضور رجل دين في البرامج الاجتماعية!).


إن مشكل التلفزيون المغربي لا يكمن في دفاتر التحملات والنقاش الهامشي الذي ارتبط بها حول القمار والأذان ونقل صلاة الجمعة... بل في الأسئلة الجوهرية حول التلفزيون وقواعد بناء إعلام حر وديمقراطي متحرر من قبضة السياسي. فلا أحد يملك الحقيقة بين يديه، ولا أحد له الجواب الشافي والكافي، وشروط النجاح وبذور الفشل لا توجد في إباحة إشهار القمار أو منعه، بل في تلبية حاجيات المهنيين وحرفيي السمعي البصري.
من الضروري الإجابة على سؤال جوهري حول تكلفة دفاتر التحملات التي رسم ملامحها الخلفي (وهو السؤال الذي لم يجب عنه خلال حضوره الأسبوع الجاري لنادي ليكونوميست)، إذ لا يعقل أن نضع دفتر تحملات دون أن نعرف جيدا كلفته المالية لأن أول شي سيسأل عنه المهني هو الموارد المالية لتنفيذ بنود الدفاتر الجديدة، والنقاش الحقيقي سيبدأ خلال مناقشة عقود البرامج وحينئذ سيطلب الخلفي من عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة، ووزير المالية الاستقلالي نزار البركة، تحضير الميزانية اللازمة التي يقدرها البعض بثلاثة أضعاف قيمة عقد البرنامج السابق. لا أحد يسطيع اليوم الإجابة عن سؤال الموارد المالية والبشرية واللوجستيك المطلوب (تطبيق دفاتر التحملات يلزمها مقر يقول البعض في سخرية).
إن دفاتر التحملات ليست عصا سحرية ستحل جميع مشاكل القطب العمومي، ولن يصبح التلفزيون أحسن بالضرورة لو طبقنا الدفاتر بحذافيرها. الإشكال أكبر من ذلك.
لقد تضمنت دفاتر التحملات بنودا مهمة لم يتم الالتفات إليها تخص الحكامة والشفافية، أو ربما هي أهم ما جاء فيها، ولم تثر كل هذا اللغط لأن حولها نوعا من التوافق، إلا أن الحكامة والشفافية اختلطت بلبوس السياسة وعانقت دفاتر التحملات البرنامج السياسي لحزب العدالة والتنمية. فالمشروع المجتمعي مستمر في الزمن بغض النظر عن الحكومات المتعاقبة. فإذا كانت الحكومة تكتب دفاتر التحملات فإن المشروع المجتمعي يكتبه المجتمع، وتكتبه الدولة بجميع مكوناتها. الإجراءات الوظيفية تقوم بها الحكومة أما الدولة فتتحدث عن الجوهر والسياسات الكبرى.
إن أزمة الخلفي مع الرأي العام والمهنيين وداخل الحكومة تكمن في أنه لم يضع أمام عينيه السلطة المضادة التي برزت بقوة، ولم يترك لنفسه نقطة للعودة كطارق بن زياد عندما أحرق جميع بواخره على سواحل إسبانيا، لكن نهاية مغامراته وتسرعه البطولي يبقى مجهولا. فالمتحول هو الحكومة والثابت هو الدولة.
جمال الخنوسي