24‏/12‏/2009

أستاذي الذي أنقذ حياتي ...

هناك أناس يخترقون حياة الآخرين دون أن يتركوا أثرا يذكر، كأنهم أشباح أو كائنات هلامية بلا روح أو بصمات، في حين تتقاطع حياتك مع شخصيات أخرى لها تأثير كبير على مسارك، وربما تقلب حياتك رأسا على عقب.

أستاذي في الفلسفة كان من هذا الصنف الأخير، شخص حل يوما بمدينتي الصغيرة، محملا بأحلامه الكبيرة، وطموحاته المتفائلة، بل المفرطة في التفاؤل، وطرائقه الديداكتيكية التي تعلم قسطا كبيرا منها في مركز للتكوين، ونهل جزءا آخر منها من الكتب التي يلتهما بنهم.

كنا ننتظر الوافد الجديد بشوق، ليدرسنا مادة سمعنا عنها الكثير، أربكتنا، أدهشتنا، وزادت حرارة ترقب أستاذ الفلسفة الذي يلفه سحر الغموض وجاذبية المجهول.

استقبلناه مدججين بآرائنا المسبقة وعقولنا المنغلقة، وفهمنا المعقد، ظهر بسحنته الأنيقة وشعره المرتب وابتسامته الباردة وملابسه المنمقة. صمته كان يخيفنا وحركاته البهلوانية تضحكنا، أما كلماته فتشوش على عقولنا المراهقة التي تمتلئ بسنوات من الضجيج، وطبقات من الأخطاء، وتاريخ من اللاعقل. كنا ننتظر منه الكثير، واكتشفنا فعلا معه الكثير، عالم من الغموض والأسئلة المتضاربة.

كنا ننتظر درس الفلسفة بشوق كبير، ليقلب مفاهيمنا، نعد له الأسئلة المقلقة تارة، والمزعجة لعقولنا تارة أخرى. قضايا تهز يقيننا الهش، وتربك عنفواننا، ونظرتنا البسيطة إلى الحياة.

لقد نجح الأستاذ في أن يحبب إلينا مادة قهرت عقولنا، وجعلتنا نسبح ضد التيار، ونفكر خارج القطيع، ونحلق خارج السرب. لقد أنقذ أستاذ الفلسفة حياتي وقلب طريقة تفكيري وجعلني، على غرار عشرات التلاميذ الذين درسوا في فصله، شابا فطنا، وكون جيلا لا ينتمي إلى شرذمة المستهلكين ل"الهضرة". لم نعد مجرد عقول تملأ بالمعلومات وخزانا للمعطيات، بل زودنا بآليات للتحليل ومهجا للتفكير، ونظرة نقدية للأشياء. لقد شجع لدينا إعمال العقل، وأيقظ الحذر الفكري، ونمى الدهشة الفلسفية.

لقد تمكن في ظروف يقال عنها الكثير في مؤسسة المنصور الذهبي، أن يقوم بمهمته على أحسن وجه، وخلق مجموعة من المولعين بطريقته في التدريس، وحطم فكرة مسبقة لدينا عن الفلسفة كمادة ل"المسطيين" و"اللا أسوياء" والمعتوهين. وجعل منا أناسا مختلفين نحب الحياة ونحترم الآخر ونثمن الأسئلة ونؤمن بالاختلاف.

بفضله انتقلنا من داخل أقسامنا البئيسة وطاولاتها المتسخة بزخرفات التلاميذ والمراهقين، وتعالينا عن واقع فج وتافه لنحلق بأفكارنا داخل قضايا أنطولوجية كبرى: ما الهدف من الحياة؟ ما معنى الموت؟ ... كما مكننا من الإبحار في الممنوع، وفي قلب طابوهات الدين والجنس والسياسة، ولعب بكل توازن على حبل التوافقات، إذ كان يتنقل ببراعة بين دور الأستاذ والصديق والأب والأخ وكاتم الأسرار.

وكان في آخر كل سجال وجدل ابستيمولوجي، بعد أن تكون دلائله أفحمتنا، وبلاغته أخرصتنا، يختم بجملته الشهيرة: ما أكبر القضية وما أصغر الثانوية!

إلى كل مدرسي مادة الفلسفة تحية خالصة، وإليك ألف تحية، أستاذي وصديقي سي محمد زرنين.

جمال الخنوسي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق