19‏/01‏/2006



يوم في حياة الطاهر بن جلون

بدأت جريدة النهار اللبنانية في نشر سلسلة من المقالات تحت عنوان "يوم في حياة .." تخص به مجموعة من المفكرين و الأدباء المتميزين ، حيث يكتبون عن يوم في حياتهم "العادية". اخترنا لكم اليوم المقال الذي كتبه الأديب المغربي الطاهر بنجلون و خص به الجريدة :

نهاري يبدأ من العشية، من اللحظة التي أجهّز فيها نفسي للنوم. بما أن لا وعيي أكثر صلابة من إرادتي، هو يرفض أن يدعني أستسلم للنعاس والغفو. غالبا ما أُحرم هذا الوقوع اللذيذ في الليل، في غموض الليل ومجهوله. كما لو أن أحدهم يراقبني ويقول لي: لن تنام قط، سوف تظل مستيقظا، أكانت عيناك مفتوحتين أم مغمضتين، ولن تستطيع أن تفعل شيئا بهذا الأرق، لن تشغله مثلما يفعل كتّاب آخرون يستغلونه لكي يكتبوا أفضل صفحاتهم، لن تتمكن من القراءة لتمضية الوقت ولا للتعويض مما فاتك من قراءات ضرورية. لا، ينبغي لك أن تتحمل الليل حتى الانهاك، وآنذاك سوف يغرق جسدك بلطف في النوم المشتهى!
لقد سمعت هذا الكلام ألوف المرات، فأنا خادمٌ مخلص للأرق الناشف، العاقر، ذاك الذي لا ينتج سوى الملل، والتوتر العصبي، والعدم، وتكراره السخيف. قد تعتقدون أني أنام طوال الصباح، وأني أعوّض نقصان النوم ليلا بالنوم بعد شروق الشمس. لا، أبدا، فأنا استيقظ، أو على الاصح انهض من السرير باكرا، وأتكل على الدش البارد لكي يعود جسدي الى طبيعته، ولكي أوهمه بأن الليل كان طويلا وطافحا بالأحلام.
طوال النهار أحمل على وجهي علامات رفيقي اللدود، الأرق. بعد القهوة، الكثيفة والمضغوطة على الطريقة الايطالية (منذ بعض الوقت أجد متعتي في كبسولات الاسبريسو التي تعطي قهوة ألذّ وافضل من تلك التي يقدّمونها لنا في المقاهي الباريسية)، أغادر المنزل وأتوجه الى مكتبي.
يمكن الكاتب أن يكتب في كل مكان: ذلك صحيح عموماً. ولكن ما أن استطعت تدبير مكان مخصص حصرا للكتابة، فصلتُ حياتي العائلية عن حياتي المهنية. ثمة بضع عشرات من الكيلومترات بين المنزل والمكتب، اجتازها بالسيارة لسببين: الأول أني أستمع الى أخبار الصباح عبر الراديو، والثاني أن المترو الباريسي يكون في تلك الساعة مزدحما للغاية. لا أحبّ هذا الالتصاق بالناس، ولا أحب خصوصا مزيج العطور ومزيلات الرائحة التي يضعها بعض الناس لستر إهمالهم على مستوى النظافة.
في كل حال، منذ انطلاق الحرب الخبيثة التي تشنها بلدية باريس على سائقي السيارات، أفكّر في التخلي عن سيارتي. هكذا يجب أن أستغني عن الساعة التي أمضيها كل صباح مستمعا الى الأخبار. من جهة ثانية، ليست باريس ويا للأسف مدينة يحلو فيها المشي: ثمة فيها درجة عالية من التلوث.
أصل الى المكتب حوالي التاسعة صباحا: أصعد الطبقات الخمس على الدرج (ليس هناك من خيار آخر)، لكني أقول لنفسي إنها رياضة مفيدة، لذا أكرر العملية نفسها خمس مرات في اليوم.
في المكتب، فنجان قهوة ثان. بدايةً أقرأ إيميلاتي، أتصفح الجرائد ثم أبدأ بالعمل فوراً. عندما أكتب قصة ما، لا أضع خطة عمل، وأحرص على ألا أعرف سلفا كيف ستتبلور الحوادث وتتطور الشخصيات. تلك متعتي. قبلاً، أي لخمسة أعوام خلت، كنتُ أستخدم الدفاتر. لكني منذ اكتشفت جهاز الكومبيوتر، انتقلت الى الكتابة عليه، وتلك لذة مهددة ومنقوصة لأني لم أروّض تماما بعد هذا "الحيوان" الالكتروني الذي، رغم تمتعه بمزايا كثيرة، فقد أفقدني صفحات ثمينة. في كل حال، انا أطبع ما أكتبه وأقوم بعمل تصحيح طويل على النسخة الورقية. لم أزل متعلقا بالأوراق وبقلم الحبر وبكتابة الملاحظات على هوامش الصفحات.
في الأيام التي تلي ليالي النوم السيئة، أجد صعوبة في الانطلاق. أتردّد، أخطىء الضرب على لوح المفاتيح، أدور على نفسي، أكون في اختصار غير مجد. لكني لا أيأس ولا أتخلى. أظل جالسا الى طاولتي، منتظرا عبور الذبذبات الليلية المزعجة. أحيانا أتمنى إرسالها الى جاري، لكنها لا تفلتني من قبضتها بسهولة. يحصل أن أستخدم هذا الوقت لكي أقوم ببعض الأبحاث أو لكي أعيد قراءة بعض الكتّاب الذين أحبهم. اعترف مثلا أني لم اقرأ في حياتي كتابا لكلود سيمون الى آخره، لكني أعشق أن أفتح كتبه على هوى المصادفات وأن أقرأ منها صفحة أو صفحتين. تعجبني في شكل خاص طريقته في تركيب الجمل. أقرأ أيضا للشعراء: شار، سان جون برس، أراغون، سيفيريس، ريتسوس، ...الخ. هذا النوع من القراءات يريح أعصابي ويشرّع أمامي دروب الخلق.
حوالى الحادية عشرة صباحا أنزل لآخذ بريدي. الخميس أتصفح مجلة "لو نوفيل اوبسرفاتور"، اقرأ فيها مقال جان دانيال وأنظر الى رسم وياز.
عند الأولى بعيد الظهر، أذهب لتناول الغداء في مطعم قريب، ونادرا ما أكون وحدي آنذاك. عندما لا يكون عندي غداء عمل، أحب أن أتنزه وأن أهيم في الطرق، وأحيانا أشاهد فيلما. لدى عودتي الى المكتب، أشعر بالحاجة الى قيلولة. أفضل طريقة هي البدء بقراءة "لو موند"، فيدركني النعاس سريعا. إنها لحظات الراحة الأكثر أهمية بالنسبة إليّ، لأنها تعويض من الليل القاسي. عادةً أبرمج مواعيدي في فترة ما بعد الظهر، بدءا من الساعة الرابعة. أستقبل الزائرين الذين يصلون منهكين بسبب السلالم، ويحتاجون الى خمس دقائق لاستعادة أنفاسهم. إذا كان الشخص مدخّنا أعظه بضرورة وقف التدخين، أما اذا كان متعبا فحسب، فأحادثه بأمور شتى ثم ننتقل الى مبرر الزيارة.
أوقف العمل نحو السادسة، أعود الى السيارة وأنزلق في عجقة السير لكي أعود الى منزلي. هناك أيضا أتابع الاخبار والتعليقات وأحيانا استمع الى الموسيقى، وخصوصا الجاز.
بين السابعة والثامنة والنصف، أكون ملك أولادي. صخب، فروض مدرسية، عشاء ثم مفاوضات لكي يقرأوا قبل النوم. أحرص على أن يقرأوا على الأقل صفحة من كتاب ما، ويهمّني أن أزرع فيهم هذه العادة.
عند التاسعة يجتاحني التعب. أعود غير صالح لشيء بسبب النهار الطويل وعواقب الستريس. نصحني طبيبي بالنوم في هذه الساعة، لكني أقاوم، أشاهد فيلما ثم أقرأ لمدة ساعة. أجتنب الكتّاب المعاصرين. ليس هناك أفضل من التحف الكلاسيكية: مونتين، ثرفانتس، بورخيس... عموما يفترض بهذا النوع من القراءات أن يحضّرني للنوم، ولكن كل ما فيّ يقاوم.
كان هذا نهارا عاديا. لكني إذ أسافر كثيرا، أشغل الأيام التي أتنقل فيها في شكل أكثر فاعلية. عندما أكون مدعوا الى مكان ما، يكون ذلك لكي أعطي محاضرة أو أشارك في ندوة، ...الخ. فأنظّم وقتي بحسب المدينة التي أكون فيها لكي أزور متحفا واحدا على الاقل، ولألتقي مساء ببعض الاصدقاء.
مهما فعلت، وخصوصا عندما أكون في طور كتابة رواية ما، أعمل طوال الوقت، أفكر في كتابي ليل نهار، أعيش مع شخصياتي، أستشيرها، أتعلق بها، وعندما تصبح لا تطاق أمحوها وألغيها.
الكاتب لا يكون يوما مرتاحا، لا يذهب يوما في عطلة، لأنه شاهد على عصره، ولأن عينيه تحدقان باستمرار في ما يحصل أو ما لا يحصل. لأجل ذلك تتشابه كل الايام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق