09‏/02‏/2006


"ميونخ" لمخرجه ستيفن سبيلبرغ :
فيلم جميل للمشاهدة .. بتحفظ !!

قبل أن تذهب لمشاهدة فيلم "ميونخ" لمخرجه ستيفن سبيلبرغ عليك أن تدع كل أفكارك واعتقاداتك على باب السينما، أزل عنك كل الشوائب والأفكار المسبقة التي ربما كونتها بقراءات هنا أوهناك حول الفيلم. عليك أن تدخل القاعة تملؤك رغبة واحدة و بلا خلفيات: "مشاهدة عمل فني" لابد أن الأمر سيكون صعبا لأننا نحمل جميعا قضية ( القضية الفلسطينية) في عقولنا وقلوبنا ونؤمن جميعا بمشروعيتها وعدالتها. كيف نوفق إدن بين هذه الازداوجية المزعجة أساسا لتقييم أي عمل فني. لنحاول.
الفيلم عرض عند صدوره في فرنسا في أكثر من 400 قاعة دفعة واحدة في 25 يناير الماضي. و يحكي قصة واقعية تتمحور حول العملية التي قام بها كومندو فلسطيني في الدورة الأولمبية بميونخ في 5 شتنبر 1972. الكوموندو الذي أطلق على نفسه اسم " شتنبر الأسود" استطاع أسر 9 رياضيين إسرائليين مشاركين في الألعاب. سيأخذ الكومندو 9 رهائن بعد قتل اثنين في محل إقامتهم بالقرية الأولمبية وبعد 23 ساعة سيقتل جميع الرهائن . لكن العالم ـ يقول صاحب الفيلم ـ سيكشف وجها جديدا للإرهاب حيث سيتابع العملية قرابة 900 مليون مشاهد مباشرة على شاشات التلفزيون.
بعد أن رفضت حكومة غولدامايير إبرام أي صفقة مع الكومندو الفلسطيني قررت القيام بعملية مضادة وانتقامية مما حدث في ميونخ سمتها "غضب الله" يترأسها عميل الموساد الشاب "أفنار" رفقة 4 رجال آخرين يتكفلون بملاحقة 11 عنصرا من منظمة "شتنبر الأسود" والذين اعتبرتهم إسرائيل المسؤولين على أحداث "ميونيخ".
العملية كلها ما زال يلفها نوع من الغموض لأن ملفاتها في إسرائيل مازالت مصنفة "سري للغاية" في بلد في حالة حرب دائمة.
الفيلم يتميز بتقنية عالية ويبرهن مرة أخرى على تمكن سبيلبرغ من أدواته السينمائية وقدرته الفائقة في التعبير. فشخصية البطل تجمع بين صفتين متناقضتين القوة والضعف، الثقة والشك.. هذا ما سيجعل إحدى شخصيات الفيلم تقول ، بعد فحص يدي البطل ، "بالرغم من رقتك فلك "يدا جزار".
الفيلم مدته ساعتان و40 دقيقة. وبالرغم من تكرار عمليات القتل لا يمكن اعتباره في أي حال من الأحوال فيلم "الحركة" ولا يطمح المخرج لذلك. بالرغم من أن تلك المشاهد محبوكة بشكل احترافي إلا أن سبيلبورغ تعمد أن يجعل المشاهد يتقزز من مشاهد الموت والعنف ويجعلنا نرغب ونتمى التعجيل بنهاية تلك المشاهد كما يتمنى الجميع نهاية صراع كتب له أن يدوم طويلا. مشاهد القتل كانت تدمر الضحية والقاتل أيضا حيث يخرج البطل كل مرة أكثر وحشية وأقل إنسانية.الفيلم يتجاوز التحديد الكلاسيكي للأفلام والصراع بين "الخير" و"الشر" حيث نصل في مستوى معين من الفيلم إلى فقدان بوصلة الخير والشر، ونصبح في حيرة من أمرنا حول التصنيف الذي يمكن أن نحدد به انتماء كل فرد للخندق المناسب. يحس البطل أنه يخسر قيما كان يؤمن بها. وتنجلي أمامه غيوم الاعتقاد الزائف. يكشف البطل في الأخير أن الضحايا الذين نفذ فيهم حكم الموت لا علاقة لهم بحادث ميونخ. سينقلب السحر على الساحر وسيحس البطل أنه مستهدف من الأعداء والأصدقاء معا. ليأخذ قرارا صعبا و عنيفا و مهينا للوطن حين يرفض العيش في إسرائيل وهي ضربة قوية لدولة هدفها الأسمى هو لم الشتات.
إن الكلمة الأساس في هذا الفيلم كما عبر عنها سبيليرغ هي كلمة "Home" يعني بيت والبيت يرمز للوطن، إن الصراع الفلسطيني الإسرائلي ليس صراع ديانات بل هو صراع حول البيت حول الأرض، حول الوطن وحول المطبخ الذي يشتهيه البطل و يحلم به أمام واجهة محل باريسي فخم . المطبخ الذي يريده مسرحا للممارسة هوايته المفضلة: الطبخ، الذي يحيلنا هو أيضا للأم والوطن الأم.
وحتى في البورتريه الذي رسمته له مجلة تيليراما الفرنسية فقد جعلت من سبيلبرغ اليهودي الأكثر شهرة في هوليود وقالت بأن سبيلبرغ عاش علاقة معقدة مع "يهوديته" حين كان صغيرا . فقد كان هدفا للشتائم من الأقران ووصفوه بجميع النعوت السلبية المعادية للسامية لدرجة
جعلته يتبرأ من اسمه وعائلته ويدعي أنه من أصل ألماني . إلى غاية سنة 1993 وفي قمة نجاحه سيتطرق و لأول مرة لانتمائه الديني من خلال فيلم "لائحة شيندلر" الذي جعل منه نصيرا لإسرائيل و بطلا يهوديا بعد أن كان مجرد مخرج أمريكي فذ.



لقد عبر في حوار سابق أنه حكى هذه القصة من وجهة نظر يهودية وأمريكية لأنه يهودي أمريكي. على أي حال فالموضوع شائك وموقف سبيليورغ كان سيحدث ردود أفعال قوية من هذا الطرف أو من الآخر. مهما كان حياده. فالفيلم مساند لإسرائيل و هذه مسألة لا نقاش فيها ومخرجه مساند لإسرائيل أيضا ويصرح بذلك بلا حرج لكنه بالرغم من ذلك كان نقده لاذعا و قاسيا. الزوبعة التي أحدثت حول الفيلم كانت حول إظهار سيبلرغ للفلسطينين كشخوص تحمل قيم "إنسانية" بدل كليشيهات الإرهاب المتداولة في السينما الهوليدية، الفلسطيني أصبحت له وجهة نظر وكلمة يقولها في صراع هو الخاسر الأول فيه. و حتى الولاء للوطن يصبح مهزوزا في الآخر الفيلم، ولن يبقى سوى الولاء الحقيقي للحب ، حب العائلة، الزوجة ـ الحبيبة و الطفلة الصغيرة وحتى الحلم بهذا الوطن الجميل يصبح كابوسا. المطبخ الذي لن يحصل عليه قط و الوطن الذي اختار هجره و الرحيل عنه إلى الولايات المتحدة، وهذا قسوة من سيبليرغ اتجاه إسرائيل. الفيلم ينقل صورة تحول دولة تبحث لها عن شرعية وفي نفس الوقت تكرر نفس فعلة الإرهابيين، الانتقام إذن ما هو إلا حلقة لولبية ستسقط الإنسان من درجة الإنسان إلى حضيض الوحوش.
ومن اللازم تسجيل نوع من الاستخفاف أو لنقل الاستسهال الذي لا نقبله من مخرج عبقري كسبيلرغ، حيث يطرح أفكارا مهزوزة في مشاهد يتعمد فيها الترميز الساذج مما يجعلنا نعتقد أن المخرج يشتم ذكاءنا ويستصغر تفكيرنا، وكمثال على ذلك المشهد الذي يتصارع فيه الفلسطيني والإسرائيلي حول المحطة الإذاعية التي يستمعون لها حيث يلح الإسرائيلي على أغنية عبرية بينما يصر الفلسطيني على لحن عربي ويتوصولون في الأخير إلى حل مرضي للجميع هو أغنية أمريكية شهيرة!! إضافة للتناقض الذي يجسده مشهد الحب بين البطل "أفنر" و زوجته ، حيث يختلط الفعل الحسي بما يحمل من حب وألفة والتحام بمشهد قتل الرهائن وتصفيتهم في ميونخ، حيث نلحظ سقطة لسيلبورغ باعتبار المشهد غير موفق.
يستغل المخرج عنف قتل الرهائن طول الفيلم حتى لا ينسى المشاهد المأساة الأولى مع أفعال القتل البشعة التي نفدها البطل ورفاقه. يبقى الفيلم طوال أطواره المختلفة مسكونا بها ويقحمها المخرج في كل لحظة حاسمة حتى نستسيغ درجات الوحشية التي يتعامل بها البطل. إنه تذكير مستمر وشرعنة لرد الفعل الإسرائلي مع الحفاظ على إنسانية القتلة بابتعادهم عن عائلات "الضحايا".و حرصهم على عدم إلحاق أي أذى بهم . الفيلم يجعل من الكل ضحية و كلا الطرفان في نهاية الأمر "بشر" وضحايا لصراعات سياسية و اقتصادية..
إن الفيلم خطوة للأمام و نوع من النقد الذاتي يتسم بالشجاعة التي ربما تنتظر منا نحن أيضا أي الطرف الآخر في الصراع شجاعة مماثلة ونقدا وخطوة للأمام. ومهما قدم من أطروحات يهودية اسرائيلية إلا أنه يبقى مع ذلك فيلما يطرح أسئلة محرجة حول الإنسان والحرب والدمار النفسي والسيكلوجي نتيجة صراع بدأ يأخذ بعدا أزليا.
جمال الخنوسي




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق