22‏/02‏/2006

على هامش المعرض الدولي للنشر و الكتاب بالدار البيضاء
أزمة قراءة .. أم أزمة كتابة ؟

كان انعقاد المعرض الدولي للنشر و الكتاب بمدينة الدار البيضاء في دورته 12 و بصيغته الجديدة حيث أصبح نشاطا سنويا بعد أن كان يعقد مرة كل سنتين. مناسبة لطرح مجموعة من الأسئلة الملحة و المزعجة في آن واحد. و بالخصوص تلك المتعلقة بالكتاب و القراءة داخل المجتمع المغربي.
لا بد أن الحسم في كوننا مجتمع لا يقرأ أمر لا يحتاج لا إحصاءات و لا دراسات حتى نصل لنتيجة حزينة مفادها أننا مجتمع لا تعتبر فيه القراءة طقسا من طقوسنا اليومية . الأمر الذي جعل بعض المتشائمين يرون أن إقامة تظاهرة كالمعرض الدولي للدار البيضاء خطوة بلا جدوى أو نفع ، مادام القارئ المغربي كائن خرافي أو ديناصور انقرض منذ الأزل بل لم يكن له وجود بالمرة . و الجميع يذكر قصة الكاتب المغربي أحمد بوزفور الذي رفض تسلم جائزة عن كتاب باع منه 600 نسخة !! من هنا يصبح السؤال ملحا و حيويا : لماذا لا نقرأ ؟ كسؤال يختزل إشكالا أكبر و أوسع : لماذا لا نستهلك المنتوج الثقافي بشكل عام؟
يقول الناقد والكاتب أحمد اليابوري في محاولة منه للجواب على هذا السؤال إن أحسن الكتب في المغرب يطبع منها 5000 نسخة لأن المبيعات ضعيفة جدا ويبدو لأول وهلة أن المغاربة ليست لهم عادات القراءة لأسباب متعددة : فالمدرسة لا تلقن ولا تعلم التلميذ القراءة. و لم تعد هناك مكتبات مدرسية بها تقاليد استعارة الكتب كما كان الشأن من قبل. ثانيا ربما المستوى المالي لشرائح كبيرة في المجتمع و القدرة الشرائية الضعيفة تجعل من الكتب آخر اهتماماتهم. ثالثا. إضافة لإغراءات التلفزيون والأنترنيت التي قضت على هذه الرغبة أي رغبة القراءة. في الحقيقة هناك أسباب متعددة وكل سبب ينحصر في جماعة معينة. ولا ننسى أيضا الأمية التي تصيب شريحة واسعة من المجتمع قد تبلغ 50% . فعندما نتحدث عن القراءة نتحدث بالأساس عن المجال الحضري أما المجال القروي فهناك غياب للقراءة. وحتى في هذا المجال الحضري فنجد نخبة معينة هي الوحيدة التي تهتم بالقراءة. والمغاربة ليس لهم اهتمام بقراءة كتب في إطار الثقافة العامة. أو ما نسميه قراءة اللذة. بل هناك اقتصار على قراءة تخصصية فقط.
أما الأستاذ عبد الجليل عقار رئيس اتحاد كتاب المغرب فيقول إن الحديث عن أزمة في القراءة ربما تعبير فيه نوع من المبالغة أو عدم الدقة. فما نعانيه في المغرب هو ضعف في الإقبال على استهلاك المنتوج الثقافي ككل. فكم هو عدد الذين يشاهدون المسرحيات؟ كم عدد الذين يشاهدون السينما؟ كم عدد الذين يشترون الكتاب ويقرؤونه؟ إن المسألة أبعد من القراءة ذاتها. إنها تمس بنية الاستقبال والتلقي للمنتوج الثقافي في عمقه وكليته. وهذا أمر بالفعل يقتضي إجراءات وتفكيرا معمقا جديدا، لأن ضعف الإقبال على القراءة أو على استهلاك المنتوج الثقافي له أسباب بعضها نابع من تغير منظومة القيم التي ربما ألقت بالعديد من الأفكار السامية إلى الهامش ، لعدم فعاليتها أو لعدم قدتها على الاستجابة لما هو يومي وفيها ما يرتبط بمنظومة التعليم وفيها ما يرتبط بالعادات اليومية للمواطن المغربي . حيث لم تترسخ بعد في المغرب ثقافة تجعل من القراءة ومن استهلاك المنتوج الثقافي عادة يومية مستحكمة وسائدة . ومن بين العناصر التي من الممكن أن تلعب دورا في التحفيز على القراءة ضرورة إيجاد استراتيجية إعلامية في المستوى المسموع والمكتوب والمرئي على الخصوص. وبالدرجة الأساسية خلق حوافز للتشجيع على القراءة حتى ولو كان الحافز هو تخصيص حيز واسع للإشهار من أجل جعل القراءة عنصرا أساسيا في التعليم باعتباره مكونا أساسيا للمواطنة. يمكن أيضا التفكير في صيغ لمباريات وسباقات للقراءة تعني وتهم النساء والشباب ويكون هذا السباق للقراءات يتوج بجوائز وحوافز تربط بين الإقبال على القراءة والإقبال على الحياة نفسها وإعادة التفكير فيها. هناك جهد في هذا الاتجاه ينبغي بدله من أجل إعادة الاعتبار للقراءة واستهلاك المنتوج الثقافي.
وفي الحقيقة العزوف على الاستهلاك ليس مغربيا صرفا ولا يمكن الجزم مادامت الإحصاءات الدقيقة غير متوفرة. بالرغم من وجود عدة بحوث لرصد وتقويم ظاهرة العزوف عن القراءة. الأسباب كثيرة ومتنوعة ولابد أن ندخل في مقدمتها الأمية، فنسبتها لا تزال مرتفعة . ولابد أيضا أن ندخل فيها إيقاع اليومي الذي يدخل أولويات لا يدع مجالا معها لإفساح المجال لتحقيق رغبات تتجاوز ذلك اليومي ومتطلباته كالحق في الشغل والتطبيب والسكن وغيرها. هناك أيضا غياب تصور متكامل يدرج التفكير في القراءة والمنتوج الثقافي ضمن سياق عصري ليصل إلى القراء . فكما هناك حملات إشهارية قوية حول منتوجات بعينها أو أصناف من القيم الجديدة ينبغي أن تتجه وسائل الإعلام أيا كانت طبيعتها لهذه الوجهة بتخصيص أحيان مهمة للوصلات الإشهارية للتحفيز من جهة على القراءة والمنتوج الثقافي أيا كانت طبيعته. وربط ذلك بقيم المواطنة وقيم التمدن و قيم التواصل والانفتاح على الآخرين لأن القراءة وإن كانت فردية فهي أداة لخلق التواصل مع المبدع لذلك الكتاب و مع المشاركين في الجريدة أو المجلة أو في برنامج تلفزيوني . ينبغي إيجاد آليات ملموسة عصرية تستثمر تكنولوجيا الاتصال المتطورة لأجل خلق دينامية أخرى والإقبال على المنتوج الثقافي والقراءة.

بالمقابل هناك من يجعل النقاش يسير في منحى آخر. فماذا لو كانت أزمة القراءة في الحقيقة أزمة كتابة. فبمجرد تصفح الكتب المغربية المعروضة نجد أغلبها كتبا تتعلق باختصاص معين لن يقبل عليها إلا القارئ المتخصص و الدارس والمهتم بالمجال الذي تنتمي إليه. أو روايات تتميز بنوع من الدسامة والكثافة تصل في بعض الأحيان لدرجات لا تطاق . ربما هي روايات متميزة ومجددة وتمتلك مقومات جمالية في بنيتها السردية والحكائية (و جميع مصطلحات النقد الأدبي الحديثة منها والقديمة) مع ذلك تبقى رواية غير مغرية بالقراءة لمتلقي يريد ممارسة هوايته قبل وصول وقت نومه! لماذا إذن لا نجد كتابا يغري بالقراءة و يمنح لذة ومتعة الاسترسال فيها؟ لماذا لا نجد كتابا يقبل عليه الناس بشغف ؟وحتى في فرنسا مثلا نجد أعلى مبيعات الكتب يحتل مراتبها الأولى كتابا ليسوا بأكاديميين ولم ينالوا الجوائز التقديرية الكبرى في البلاد ويفتقرون حتى لاعتراف النقاد بهم وإعارتهم أدنى اهتمام . كما هو الحال بالنسبة لمارك ليفي الذي حضر معرض الكتاب والنشر بالدار البيضاء هذه السنة والذي يحتل مقدمة لائحة مبيعات الكتب في فرنسا 3 سنوات على التوالي.
وهذا ما يؤكده الكاتب و الصحفي رشيد نيني حيث يعتبر ما يسمونه "القدرة الشرائية" للمواطن بعيدة كل البعد عن الشبهة التي يلصقونها بها و بريئة من هذه التهمة. لأن السبب الأساسي للعزوف عن القراءة بالنسبة له يكمن في مستوى المنتوج الثقافي الذي لا يرقى لمستوى تطلعات المتلقي المغربي و لا يعبر عنه و عن همومه. بل يسرح في ملكوت اللامعقول و عوالم من الخيال "المريض". و هذا ما ينفر القارئ بشكل تام و بلا عودة. و نحن جميعا ، يقول نيني ، مازالنا نذكر الكتب المقررة قديما في الثانوي حيث كان الطالب مجبرا على قراءة أعمال ك"وادي الدماء" لمحمد بنجلون و"رفقة السلاح و القمر" لمبارك ربيع و "المعركة الكبرى" ... إنها أعمال منفرة و الدليل على ذلك أن هناك أعمالا تعرف رواجا كبيرا مثل كتب فاطمة المرنيسي و محمد زفزاف و محمد شكري و يقبل عليها الناس بينما تبقى كتب عبد الكريم غلاب مكدسة على الرفوف!! الكتاب الجيد يقبل عليه الناس ضدا على لوبيات الكتابة الأدبية و النقاد الذين تحولوا إلى "نقاد" (من النقود).. الذين كونوا عصابات يتقاسمون داخلها و لائم و "زرود" الأدب و الكتاب في هذا البلد.
و يقول نيني إن كتابه "يوميات مهاجر سري" وصل الآن لطبعته الثانية و بيع منه أكثر من 6000 نسخة و لا أحد يتحدث عنه في وسائل الإعلام !! فقط لأنه ليس له أي ولاء لأحد و لا يستغل الشخصيات النافذة و لا ينتمي للشبكة "إياها".
و في نفس السياق يرى نور الدين الزاهي أن لدينا في المغرب روايات أعقد من التعقيد في حد ذاته. وتدرس في المدرسة مثل "أوراق" لعبد الله العروي و"لعبة النسيان" لمحمد برادة. إنها روايات غير صالحة لتدرس في المدرسة لأنها مقززة . الناقد يجد صعوبة في تحليل هذه الروايات (صعوبة في تحديد معنى النسيان في رواية برادة وتحليل شخوص "أوراق") فما بالك بتلميذ يفتح عينيه على عمل روائي بهذا الشكل!! لابد أنه ستتشكل لديه نظرة سلبية عن شيء اسمه "رواية"، وكما قال عبد الفتاح كيليطو: إذا أردت أن تقتل كتابا فادخله باب المؤسسة المدرسية. من قبل كنا نقرأ روايات ك"أولاد حارتنا" و"زقاق المدق" لنجيب محفوظ، وروايات يوسف إدريس وهي روايات كان يقرؤها الطالب كما تقرؤها ربات البيوت.
الأدب المغربي والمغاربي على العموم هو أدب للنقد وليس للقراءة . فالكاتب عندنا يكتب رواية ما، ليس لقارئ مفترض بل لناقد مفترض . ويبقى الحوار بين ناقد ما ، وكاتب ما، حول رواية ما ،على صفحات جريدة ما، ولا يعيرها أحد أي اهتمام.
في الحقيقة لنتحدث عن أزمة القراءة كأزمة كتابة يجب أن يكون لنا كتاب مثل إحسان عبد القدوس أو نجيب محفوظ وتكون لنا دارللنشر مثل "الهلال" التي تطبع الملايين من النسخ عن الكتاب الواحد، ليست لنا البنية التحتية لتجعل الإقبال على الكتاب سهلة، سلسة ويسيرة.
في الحقيقة يجب طرح سؤال القراءة ككل أو الثقافة المغربية على الطريقة التي طرح بها كانط سؤال الفلسفة في القرن 18 : كيف تصبح الفلسفة شعبية ؟ هنا لا نتحدث عن جعل المضامين الفلسفية مضمحلة، بل كان كانط يتحدث عن الكيفية التي يجعل بها الفلسفة مقروءة، نفس السؤال يجب طرحه : كيف نجعل الثقافة مقروءة في المغرب ؟ ومتى سيتم هذا اللقاء؟
سؤال أزمة القراءة يضعنا أمام حيرة . أولا ليست هناك أرقام مضبوطة حتى نقول هل هناك أزمة أم لا فلابد من دراسة كمية مضبوطة لمقاربة هذا السؤال على ضوء أرقام الأمية في المغرب هذا بالإضافة إلى استحضار ثمن الكتاب و طبيعة المكتبات وأماكن القراءة. كل هذه المتغيرات يجب أخذها بعين الاعتبار. هذا مستوى أول.أما المستوى الثاني فيتحدث عن كيف تتحول القراءة إلى تقليد، وهذا مستوى آخر يتطلب أكثر من 40 سنة من العمل في محور القراءة والتركيز عليها لأجل بناء مجتمع له هذا التقليد. هذا بالطبع بعد تعميم القراءة أي خلق مجتمع بلا أمية. إن ذلك يتطلب جهدا كبيرا ووقتا طويلا. تتحول معه المدرسة إلى فضاء و الشارع العمومي إلى فضاء و القطار إلى فضاء. فضاءات تدفع للقراءة أو على الأقل أن يختبئ الفرد داخل مكتوب ما. وهذا التقليد مؤشراته لازالت غائبة. فدور النشر لا تهتم بالكتاب الذي "يلقى" أي (Livre jetable) أي الذي يمكن أن تقرأه في سفر بين البيضاء والرباط! وقد يكون ثمنة 4 أو 5 دراهم، يضم 25 صفحة مثلا ويكون شيئا مختلفا عما يسمى كتاب الجيب . الملاحظ أن دور النشر لا تفكر في مثل هذا المشروع. من جهة أخرى المكتبات هي الأخرى مازالت فضاء مفزعا. إنها تفزع الباحث فبالأحرى المواطن العادي من حيث تعقد الولوج إليها و تعقد كيفية الحصول على الكتاب إضافة لبيروقراطتيها الصغيرة . إذن الشروط العامة لتشجيع بروز تقليد للقراءة غير متوفرة بالمرة.
أما الروائي الطاهر بنجلون فيرى أنه علينا تجنب الحديث عن أرقام المبيعات لأنها لا تعكس مستوى القراءة في مجتمعنا و المجتمعات العربية ككل حيث أن الكتاب الواحد عندما يدخل بيتا عربيا فإنه يصبح في متناول عائلة بأكملها والجيران أيضا ، وذلك نظرا لضعف القدرة الشرائية. هناك حقيقة مشكل العزوف عن القراءة ، ولكن أيضا هناك قراء لا نعرفهم ويوجدون خارج الإحصاءات التقليدية.
جمال الخنوسي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق