16‏/10‏/2010

بيروت تقدم للعالم درسا في حب الحياة

قررت اليوم أن أخرج عليكم شاهرا غضبي وكفري أيضا. وأعلن للجميع، وأمام الملأ، أني تراجعت عن كل معتقداتي وإيماني بما تذيعه نشرات الأخبار والقنوات المتخصصة حول العالم.
أعلن سخطي على "سي إن إن" و"فوكس نيوز" و"الجزيرة" و"فرانس 24" وكل المحطات الإخبارية صغيرها وكبيرها. فقد اكتشفت أنها تنشر الأكاذيب وتفبرك الأحداث وتلفق تصريحات الحرب والسلم وترسم ملامح كاذبة لبلدان ومناطق برمتها .
أعلن هذا من المنطقة الأكثر توترا في العالم، حيث يختلط المقدس بالمدنس، حيث يختلط الاجتماعي والاقتصادي والديني والعرقي في لعبة قاسية وخطرة تجعل المنطقة بأكملها على حافة الانفجار، على كف عفريت يعصف بها متى شاء. وينقلها من بحيرة سلم وسلام إلى أرخبيل الموت والدم.
لكن وسط كل هذا التوتر، تتلذذ بيروت بعيشة رغدة مستقرة، يقبل فيها اللبنانيون على الحياة بشكل رهيب، يلتهمون تفاحة الحياة بشراهة ونهم، دون أن يتركوا منها بقايا.
وكما حب الحياة متضخم عند اللبنانيين، ففي بيروت كل شيء متضخم أيضا، وبشكل غريب ومستفز. من بذخ السيارات الفارهة إلى علو الأبراج والبنايات، ومن صدور النساء السلكونية إلى صليب الكنائس العالية، ومن لباس النساء الذي يشبه الخيم إلى اللحي والعمائم التي فوق الرؤوس. ففي لبنان يعيش الناس حرب رموز وعلامات أكثر منها حرب مسدسات ومدافع.
انتهت الحرب قبل أربع سنوات، واختفى كل شيء، لم يبق هناك أثر للدمار ولا الخراب، جل البنايات حديثة وفاخرة، والوجوه تعلوها الابتسامة الدائمة وإشراقة السعادة التي لا يعكر صفوها شيء. وعندما يحكي اللبنانيون في موضوع القصف والحرب، وصراع الطوائف والعقائد، يقولون ببساطة، "السياسيون متوترون أما نحن فلا نهتم بهذه الأمور، نحن نعيش الحياة".
ويروي أهل بيروت، التي كنا نتابعها جميعا عبر الشاشات، نداعب أزرار جهاز التحكم عن بعد لنرى آثار الدمار وزعيق السياسيين المهددين المتوترين والبلهاء، يهددون بالموت في وقت تنتشر فيها الحياة في كل أطراف بيروت، (يروي) أن اللبناني يصلح زجاج النوافذ التي كسرتها القذائف حتى قبل نهاية القصف! ويسخر أهل بيروت بالقول بنغمة فرنسية عذبة، "الحياة مستمرة".
وبالرغم من أن سكان لبنان قرابة 4 مليون نسمة (أي أقل من سكان الدار البيضاء) إلا أن البلاد تضم خيرة الصحافيين الإعلاميين وأكبر المؤسسات في العالم العربي، كتاب وشعراء، رجال أعمال ومطربين، هي بلد آلاف الشهداء وملايين هيفاء. هي بلد الانفتاح والمؤسسات الثقافية، كانت بيروت تسمى "سويسرا" الشرق لكثرة تجمع رؤوس الأموال فيها، كما سميت "باريس الشرق" لكثرة استقطاب السواح والوافدين.
هذه بيروت بكل متناقضاتها، مدينة تحمل عبق التاريخ كما تفوح منها رائحة البارود، ويشيع فيها ضجيج التوتر كما تنتشر أنغام الدبكات، بيروت ... معجزة لبنان.
جمال الخنوسي