16‏/04‏/2006

كابوس داروين


"كابوس داروين" فيلم وثائقي يرصد مظاهر من
"النظام الدولي الجديد" : السمك مقابل الموت

شهدت تنزاليا في بداية الستينات دخول سمك جديد إلى أكبر بحيرة في العالم وهي بحيرة فيكتوريابفعل تجربة علمية. السمكة اللاحمة تجعل من الأسماك الأخرى طعامها المفضل ، تسببت و بشكل مباشر في انقراض المئات من الفصائل المختلفة من السمك.
هذه الكارثة البيئية أنجبت صناعة تذر أموالا طائلة حيث أن اللحم الأبيض لسمك "الفرخ" أو la perche du nil يلقى رواجا لا مثيل له في أوربا.

الصيادون ورجال السياسة والربابنة الروس، والعاهرات والمبعوثين الأوربيين هم ممثلوا هذه الدراما الإفريقية.
وفي سماء البحيرة تمزق الطائرات الروسية الضخمة صمت "فكتوريا" لتحمل أطنان السمك وتفتح الأبواب على مصراعيها أمام تجارة من نوع آخر هي تجارة السلاح.
أختتمت فعاليات المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي في نسخته الثانية و الذي نظم بمدينة الرباط بين 6 و 9 من هذا الشهر. تحت شعار "خلق الواقع" بمساهمة المركز السينمائي المغربي و معهد غوته في الرباط و الدار البيضاء بالإضافة للمعهد الفرنسي بالعاصمة.
و قد عرفت الأمسية الختامية التي احتضنتها قاعة الفن السابع اقبالا كبيرا نظرا لحجم و قيمة الفيلم المعروض تلك الليلة و يتعلق الأمر بفيلم "كابوس داروين" لإيبرت زوبر.
انطلقت فكرة الفيلم حينما كان زوبر يعد فيلما وثائقيا آخر تحت عنوان" كسانفاني - بعيدا عن روندا" والذي كان موضوعه الأساسي هو تتبع آلاف اللاجئين الهاربين من الانتفاضة الكنغولية. وفي سنة 1977 سيكون "زوبر" شاهدا عن تلك التجارة الغير متكافئة والظالمة . سيرقب الطائرات التي ترحل عن تنزانيا محملة بأطنان من الغذاء، بينما تحل أخرى تحمل على ظهرها 45 طنا من الحمص القادم من أمريكا على شكل مساعدات غذائية للاجئين في مخيمات الأمم المتحدة. ترحل الطائرات إلى بلدان أوربا الغنية تحمل 50 طنا من السمك الطري إلى موائدها.
وبعد ربط المخرج لعلاقات صداقة مع الربابنة الروس في المطار سيكشف تجارة أحقر وأكثر تدميرا. حيث أن الطائرات القادمة من العالم الآخر لا تحمل فقط مساعدات عذائية ولكنها تشرك حمولة الحمص بحمولة أكثر مردودية وتدميرا.. أطنان أخرى من الأسلحة.
الطائرات تحمل لإفريقيا الحمص لإطعام الشعوب نهارا والأسلحة لقتلهم ليلا. وكما تغذي بطونهم الجائعة تغذي أيضا الحروب والصراعات الإثنية.
وهكذا سيصبح نقل صور الموت والدمار في غابات تنزانيا وأدغالها هو هم المخرج الوحيد ليجعل من تصوير "كابوس داروين" همه الوحيد. ويرصد واقعا أبعد من الخيال بكثير. فجاب إبيرت زوبر رفقة صديقة سندور وكاميرته الصغيرة الأدغال بحثا عن حقيقة ما يجري يقول زوبر: "لقد كان من السهل تصوير مشاهد أخاذة لأن الواقع أخاذا ويمنح نفسه لك دون عناء".
لكن وفي نفس الوقت كان من السهل الوقوع في المشاكل و تتحول حياة طاقم الفيلم كابوسا. ففي تنزانيا كان عليهم إخفاء هويتهم الحقيقية . فللصعود للطائرات الروسية كانوا يتقمصون شخصية ربابنة بأوراق مزورة. وفي القبائل كان السكان يتعاملون معهم على أساس أنهم بعثة إنسانية. أما مدراء المصانع فكانوا يحسبونهم مفتشي الصحة القادمين من الاتحاد الأروبي. وفي الفنادق والمطاعم كانوا رجال أعمال أستراليين. وقد أمضى المخرج ورفيقه أيام عديدة في الاستنطاق والسجون المحلية. وضاع الكثير من ميزانية الفيلم في تقديم رشاوى للشرطة.

إن السؤال الأبدي والكبير حول ماهية النظام السياسي والاجتماعي المثالي لتسيير العالم قد وجدت إجابة لها في النظام الرأسمالي لقد انتصرت الرأسمالية باندثار الأنظمة الأخرى. ومجتمعات المستقبل ستكون "استهلاكية" و"متحضرة" و"الأرقى والأحسن" وحسب فكرة داروين فالنظام الأحسن هو من ينتصر بإقناع الأعداء وتصفيتهم. و "منطقة الواحات الكبرى" باعتبارها قلب إفريقيا الأخضر ومهد الإنسانية وانطلاق الإنسان الأول. معروفة بحياتها المتوحشة المميزة وبراكينها ومحمياتها. في المقابل فهي جحيم أيضا تمزق شعوبه الحروب الأهلية وسط صمت عالمي لا أخلاقي. إنها الحروب الأكثر دمارا بعد الحرب العالمية الثانية. ففي الكونغو مثلا يموت كل يوم أكثر ممن قضوا في أحداث 11 شتنبر في نيويورك كلها. وسط صمت رهيب ونسيان يكون دائما مبررا باعتبار هذه الحروب مجرد "صراعات قبلية" كتلك التي عرفتها رواندا وبورندي. أما الأسباب الخفية والحقيقية لنشوبها تكون في غالب الأمر ذات أبعاد امبريالية للسطو على المخزونات الطبيعية.
إن انتصار هذه السمكة حسب "إيبرت زوبر" هو في الحقيقة انتصار لعولمة طاغية ستحصد الأخضر واليابس. والمسألة ستكون نفسها في أي مكان آخر في العالم و بنفس السيناريو. ففي سيراليون سيصبح السمك أحجارا كريمة وفي الهندوراس ستصبح موزا وفي العراق ونيجريا وأنغولا سيصبح السمك بترولا.
والسينما يقول "إبرت روبير" هي الوحيدة القادرة على نقل هذه الحقيقة المرة وأبعادها. فالكل يعرف سلبيات النظام العالمي الجديد. "كلما اكتشفت مصادر طبيعية مهمة في مكان ما من العالم إلا وجاع السكان وأصبح أبناؤهم جنودا وبناتهم خادمات وعاهرات".
جمال الخنوسي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق