04‏/08‏/2011

محاكمة الفرعون على سرير الموت


كانت لحظة تاريخية صادمة عندما استفاق العالم بأسره على صورة محاكمة الفرعون المصري حسني مبارك وهو "ينام" ذليلا أمام القاضي وممثلي الادعاء والمحامين والصحافيين وعائلات الضحايا والشعب.
كان الرجل ممددا على سرير طبي كأنه في لحظاته الأخيرة، وسينطق للتو وصيته الأخيرة إلى أبنائه البررة الذين استبدلوا بذلاتهم الأنيقة وربطات العنق "الكاجوال" بلباس أبيض تافه للمحبوسين احتياطيا.
كانت صورة تاريخية ل"الريس" في أول ظهور له بعد الإطاحة به في 11 فبراير الماضي، وهو على سرير طبي يدخل قفص الاتهام ليس كباقي المجرمين وقطاع الطرق، بل كأسوأ وأعتى الجناة الذين لم يشفع وضعهم الصحي المتدهور في إثارة الشفقة أو جلب الصفح.
إنها أول مرة تحاكم فيها مصر رئيسها، ولا شيء في قوانينها يتحدث عن محاكمة مسؤول بهذا الحجم أو محاسبته. فالقانون والدستور وكل الشرائع والأعراف الفرعونية كانت تحاك وتنسج على مقاس الحاكم ولصالح الحاكم وفي خدمة الحاكم. لأجل كل هذا لم يحاكم الفرعون على 30 سنة من البطش والدكتاتورية، بل وجهت إليه النيابة العامة تهمة "الاشتراك عن طريق الاتفاق مع وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي، وبعض قيادات الشرطة، في ارتكاب القتل العمد مع سبق الإصرار".
 
لقد تحول الفرعون المصري إلى فرجة "تلفزيونية" ليس لشعب مصر الكبير الذي اشتهر بالأخلاق العالية و"العفو عند المقدرة" بل للعالم بأكمله، وستلتصق صورة مصر وربيعها المزهر ليس بالفل والياسمين أو العزة والكرامة بل برئيس واهن استبدل كرسيه الذهبي بسرير طبي بارد، ومحاكمة متهم مصاب بسرطان في المعدة ويعاني اكتئابا حادا. فلا أحد يريد للربيع العربي أن يزهر في خريف عمر "الريس" ونهايته المأساوية.
ويقف إلى جانب الفرعون زميله وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي، وستة من كبار معاونيه السابقين. وارتدى العادلي خلافا للآخرين الملابس الزرقاء الخاصة بالمدانين، بعد أن سبق الحكم عليه بالسجن في قضية فساد الذي لا يعرف غيره.
إن محاكمة حسني مبارك ليست لحظة عدالة فحسب، بل هي محاولة من "أصدقاء الأمس" الباقين في سدة السلطة من أجل تبييض وجوهم من خلال التضحية برفيق الدرب الذي نهلوا من فتات موائده بالأمس القريب، وهم اليوم ينهشون لحمه "ميتا". كما أنها أيضا طريقة لملء فراغ سياسي كبير في مصر التي لا ضامن لاستقرارها سوى الجيش، إذ لم يتحقق إلى حدود اليوم ذلك الانتقال الديمقراطي المنشود للسلطة، بل هناك حالة مزمنة من الترقب وبروز تدريجي للإسلاميين إلى واجهة اللعبة السياسية بعد أن حقق ميدان التحرير ما عجزت عن تحقيقه على مدى عشرات السنين. ومحاكمة الريس اليوم هي محاول من السلطة أو ما تبقى منها لتأثيث مشهد الفراغ هذا وتحويل الانتباه عن مستقبل غامض.
هل يبدأ التاريخ بالعدل والقصاص أم بالموت والانتقام؟ وهل يمكن أن نبني المستقبل على دماء الضحايا أم على أنقاض الجلادين؟
لقد أبان التاريخ أن ما يبنى على الموت والغرائز الإنسانية الوضيعة لا يخلق سوى الطغاة وسفاكي الدماء، أما ما يشيد على المبادئ الإنسانية الكبرى والقيم النبيلة، فيفتح الباب على مصراعيه لميلاد جديد مبشر بغد أفضل، وما على مصر سوى أن تختار خطوتها المقبلة والطريق التي تريد أن تسلك. 
 جمال الخنوسي