25‏/01‏/2009

التلفزيون المغربي يحول نعمة الإشهار إلى نقمة

قياس نسب المشاهدة فرض تغييرات كارثية على شبكات التلفزيون ونقل كل ما هو جدي إلى شطر زمني متأخر

كان الاثنين الماضي تاريخا لا يمكن التغاضي عنه في فرنسا، ويوما مشهودا داخل المشهد السمعي البصري أو ما يصطلح عليه أهل المجال ب"الباف"، إذ كان 5 يناير، أول يوم بلا إشهار على القنوات العمومية الفرنسية، بعد قرار قلب جميع موازين القنوات التلفزيونية في فرنسا، وأثار صخبا ولغطا لم ينته إلى حدود اليوم، فاستقبل بحفاوة كبيرة من البعض، في الوقت الذي اتهم آخرون الرئيس نيكولا ساركوزي ب"التواطؤ" وتقديم "كعكة الإشهار" هدية إلى المقربين منه.
يقف وراء القرار الجريء والحاسم، ولم لا الديكتاتوري أيضا، نيكولا ساركوزي، وقضت توجيهاته الرئاسية بحذف الوصلات الإشهارية بين الثامنة مساء إلى السادسة صباحا، على أن يختفي الإشهار بشكل تام ونهائي في 30 نونبر 2011.
استلهمت فرنسا التي تبلغ مداخيل القنوات التلفزيونية بها أكثر من 250 مليون أورو، الفكرة من تجربة التلفزة العمومية البريطانية "بي بي سي"، الهدف منها تخليص التلفزيون من ضغط الإشهار وتوجيهات المعلنين، وأراد ساركوزي تحرير التلفزيون العمومي من سطوة الإشهار ودكتاتورية نسب المشاهدة، واللهاث نحو تحقيق أعلى المعدلات، وبالتالي يمكن لهذه المحطات تقديم برمجة ذات جودة عالية، ومستوى معقول في أوقات الذروة. في حين أن معارضي القرار يرون فيه هدية سخية من الرئيس للموالين له، والداعمين لحملته الانتخابية الرئاسية مثل "مارتان بويغ" و"أرنو لاغاردير" المساهمين الرئيسيين في القناتين الخاصتين "تي إف1" و"إم 6".
الانتقال بهذه الفكرة إلى التلفزيون المغربي لن يكون مجانيا، وسيعري حتما أمامنا العديد من الحقائق خصوصا مع الاكتشاف الجديد القديم المسمى "نسب المشاهدة" وما ترتب عنه من كوارث.
فمنذ انطلاق عملية القياس في شهر مارس الماضي من طرف مؤسسة "ماروك ميتري"، شهدت مختلف شبكات التلفزيون تغييرات كارثية تم، بموجبها، نقل كل ما هو "جدي" أو"رصين" إلى شطر زمني متؤخر، في حين احتلت سهرات التضبيع، وبرامج الهلوسة التلفزيونية حيزا متقدما، ولم يعد أمام المشاهد سوى الاختيار بين "الداودي" أو"الداودية". والذريعة، دائما، تحقيق نسب مشاهدة عالية لأن "الجمهور عايز كدة"، وفي الحقيقة ليس الجمهور وحده من يريد هذا الوضع بل المستشهرون أيضا.
من جهة أخرى، يجب الأخذ بعين الاعتبار أن انطلاق قناتين تلفزيونيتين خاصتين، سيشكل منافسا جديدا لكنها في الحقيقة لن تكون منافسة متكافئة، فالتسابق على الكعكة الإشهارية سيكون ضاريا، وستترتب عنه عواقب وخيمة، أولا على مستوى البرمجة (منافسة أكبر تعني هامشا أوسعا ل"هلوسة" المشاهدين)، وثانيا على مستوى قيمة الوصلة الإشهارية (تحطيم الأسعار ثم انهيارها)، وثالثا صعوبة ضمان بقاء واستمرار مشاريع هشة، وإجهاض تجربة المحطات التلفزيونية الخاصة التي مازالت في مرحلة جنينية.
لكن سيئات هذا المقترح تتجلى في أن اختفاء الإشهار التلفزيوني سيكلف الأولى حوالي 150 مليون درهم، والثانية حوالي 80 مليون درهم، في حين تعيش قنوات أخرى عالة على زميلاتها في القطب العمومي (السادسة والرابعة ...) وسيجر هذا خزينة الدولة إلى دفع المبلغ، وربما الزيادة في رسم تطوير المشهد السمعي البصري.
إن التجربة الفرنسية، مع فارق السنوات الضوئية التي بيننا، لابد أن تكون، على الأقل، حافزا كي يبدأ المغرب في تفكير جدي حول ما يمكن أن يحدثه حذف الإشهار من القنوات العمومية على قيمة المنتوج، الذي خضع، في الآونة الأخيرة، إلى تغييرات فرضتها الماركات الكبرى إذ حكمها الجبن والشمبوان والفوطات الصحية بدل أن تحكم التلفزيون سياسة إعلامية وبرمجة واضحة الملامح.
جمال الخنوسي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق