23‏/10‏/2008

"سبت نابولي" .. مستعمرة مغربية في قلب إيطاليا

سوق شعبي تتعايش داخله فوضى تجارة السلع المزورة واللحم الآدمي المهرب

جمال الخنوسي (موفد الصباح إلى إيطاليا)

عندما تسأل عن موقع السوق الخاص بالمغاربة، يجيبك الإيطاليون بابتسامة خفيفة وينظرون إليك وكأنهم اكتشفوا فجأة أنك مغربي يبحث عن أبناء جلدته أو وافد جديد ينقب عن سلع بثمن زهيد. فينصحونك بأخذ الحافلة إلى ساحة "غاريبالدي" الشهيرة، وكي لا تتيه ينصحونك بالبقاء في الحافلة إلى غاية نهاية الرحلة "التيرمينيس": بيازا غاريبالدي.
-----------------------------------------------
قبل أن نستقل الحافلة اشترينا التذاكر من محل لبيع السجائر وقصدنا الساحة، "إنها آخر محطة في الخط "R2" فلا تغادروا الحافلة حتى نهاية الرحلة"، هكذا طمأنتنا إحدى السيدات في أدب.
يقف تمثال كبير في ساحة فسيحة عرفنا في ما بعد أنه مجسم ل"جوزيبي غاريبالدي" الذي يعتبره الإيطاليون بطلا قوميا، إذ قام هذا الجنرال الوطني شخصيا بالعديد من الحملات العسكرية التي حققت الوحدة الإيطالية، ويعد أحد أبرز رجال حرب العصابات في العصر الحديث. كما حرر صقلية ونابولي من حكم آل بوربون سنة 1860، ثم ضمها إلى الأراضي التي حررها "كاميلو بينسو" في الشمال، وبذلك نشأت مملكة إيطاليا سنة 1861.

هي فوضى!
الحركة دؤوبة داخل الساحة، ضوضاء وسيارات وحافلات وفوضى. بدأنا نرى وجوها مختلفة عن تلك المعتادة داخل الشوارع الكبرى في المدينة. عدد الأجانب هنا متزايد. في أزقة هامشية يتكدس الباعة في فوضى، "سبت نابولي" يشبه أي سوق في المغرب، سلع متراكمة وعويل الباعة بالإيطالية لكنهم يتواصلون في ما بينهم بالدارجة المغربية.
أغلب الباعة من خريبكة وبني ملال والفقيه بن صالح. تبرق عيونهم فجأة عندما تحدثهم بلهجتهم. "من إينا مدينة جيتو؟ خاصك شي بياسة ألخاوة؟".

سوق شعبي مفتوح
سوق نابولي غير مقتصر على يوم السبت فحسب، "تايعمر جميع أيام الأسبوع" يقول سمحمد ابن مدينة خريبكة، إلا أنه يشهد رواجا كبيرا في نهاية الأسبوع بسبب العطلة والإقبال المتزايد، إذ يكون هذا اليوم فرصة للتبضع وقضاء المآرب".
في "سبت نابولي" تجد جميع أنواع السلع، الرخيص منها وغالي الثمن، الحقيقي والمزور ذي التقليد المتقن. يعتمد السوق على الاختصاص، إذ هناك بائعون مختصون بالملابس العصرية وآخرون بالملابس الكلاسيكية. كما هناك باعة الأحذية الرياضية وباعة الأحذية الكلاسيكية.
جانب من السوق مخصص للأقراص المدمجة المقرصنة الخاصة بالأفلام المتنوعة وألعاب الفيديو مثل "بلاي ستايشن" و"نينتاندو دي إس".
الأثمان هنا تجذب المتسوقين من كل مكان. زبونان في الأربعين من العمر كلاهما من الدار البيضاء قالا إنهما يعملان في قرية على هامش "نابولي"، "جينا هنا باش نتقداو حويجات ونرجعو لخدمتنا".
عرفت في ما بعد أنهما في وضعية غير قانونية، "لذلك نأخذ حذرنا ولا نريد التردد وسط المدينة بكثرة". قبل أن يضيفا، "اشتقنا إلى عائلاتنا كثيرا لكن الغالب الله، يرسل كلانا ما قدره ألفي درهم كل شهر.. هي ولا بلاش".

الشرطة المالية
بين الفينة والأخرى وأمام استقرار السوق وتدافع مرتاديه تظهر فوضى عارمة وجري في كل الأنحاء ويختلط المارة والباعة الذين حملوا سلعتهم في لمح البصر ويجرون في كل جانب. يختفي الباعة وسط الزبناء وفي الدروب الضيقة المحيطة بالسوق. السبب دخول سيارة إلى الممرات. سيارة لا تحمل أية شارة مميزة. يقول أحد الباعة في محاولة لتفسير الأمر "هادو لحناش ديالهم، Guardia di Finanza" بوليس ديال الغش في السلعة والتقليد كاي قلبو على السلعة المدرحة بحال سبرديلات نايك وريبوك والصيكان ديال إيف سان لوران وشانيل".
الشرطة المالية في إيطاليا لها حظوة خاصة وسلطة مميزة، إنها شرطة الجمارك والمال، وتعتبر جزءا من القوات المسلحة الايطالية، لكنها تابعة إلى وزارة الاقتصاد والمالية، وتتمتع بعدة صلاحيات قانونية وعسكرية وتتكفل بعدة مهام، أهمها المراقبة الجمركية ومحاربة الغش والجريمة المالية وتهريب المخدرات والسلع المختلفة والهجرة غير القانونية وتبييض الأموال وتقليد المنتجات الفاخرة والماركات الكبرى. ويبلغ تعداد الشرطة المالية 68 ألف شرطي يحملون رتبا مختلفة.
ويضيف البائع المغربي "ولينا تنعرفوهم غير تايبانو كلشي تا يهرب، عياو ما يتخبعو بلا فايدة".
يظهر في السيارة شرطيان في الثلاثينات من العمر، تجد السيارة صعوبة كبيرة في التقدم وفتح الطريق وسط الزحام. بعد حين تتوقف السيارة ويخرج الشرطيان اللذان يرتديان الزي المدني يحملقان يمينا وشمالا ثم يركبان السيارة مجددا ويعودان أدراجهما ويختفيان في فوضى الحركة المرورية داخل ساحة كاريبالدي. "راهم ماشي بوحدهم، تايخليو صحابهم برا باش إلا كانت شي حاجة تايعيطو عليهم".
لم تدم الغارة سوى دقائق قليلة عادت بعدها الأمور إلى عهدها القديم، وعادت السلع المهربة والماركات المزورة إلى رفوف الباعة.

الأزمة عالمية والمافيا مغربية
لا أحد في هذا المكان يأبه بالأزمة العالمية أو له فكرة عن انهيار البورصة، "هذا أمر لا يعنينا ولا يهمنا في شيء، أحنا حاضيين غير سلعتنا أو باش نعيشوا أو مانسيفطوا للعائلة"، يقول أحد الباعة. الرواج في هذا السوق لم يتأثر بما يحدث خارجه، فالكل هنا خارج القانون: سلع مهربة وماركات مقرصنة ومهاجرون غير قانونيين. أحد التجار متحدر من مدينة بني ملال يقدم تفسيرا بسيطا للأمور، "هنا ماتديرش ما كاينش اللي يهضر معاك، كيفما كانت وضعيتك" في وقت يتحدث فيه آخرون عن مافيا مغربية تحمي الجميع هنا وتسهر على مصالحها ومصالحهم مقابل أتاوات دورية. المافيا المغربية نسجت بدورها علاقات مع مافيات أخرى مفتاحها: المصالح المتبادلة.
المهاجرون يفضلون القدوم في البداية إلى الجنوب الإيطالي حيث المافيات توفر لهم الحماية مقابل استغلالهم في أعمال قانونية ذات مقابل هزيل أو أنشطة غير قانونية بإغراءات مالية مهمة. كما أن الأقاليم الجنوبية تتميز ب"تفهم" الشرطة" وعدم لجوئها إلى ترحيل المهاجرين عكس المنطقة الشمالية التي تتميز سلطاتها الأمنية بالحزم. لذلك تستقطب مدينة "نابل" أكبر عدد من "الحراكة"، يدخلون عبرها إلى مناطق أخرى. وحتى في حالة قيام المهاجر غير القانوني بمخالفة لا تتعدى إجراءات الشرطة أخذ بصماته وإطلاق سراحه.
وبفعل قوة المافيا المغربية في "نابولي" أصبح الجميع في المدينة ينعتون الأجنبي كيفما كانت جنسيته ب"المغربي".

اللحم الأبيض في ليل نابولي الأسود

في "سبت نابولي" لا تجد الأحذية الرياضية والملابس المتنوعة والمعاطف الجلدية والبضائع المختلفة الجامدة فحسب، بل هناك جانب خاص باللحم الآدمي أيضا، الكل يتعايش في وئام، إذ اختارت مجموعة من النساء الأنيقات اللائي صممن على الإفصاح عن أماكن الفتنة في أجسادهن والوقوف في مكان قريب من فندق صغير اسمه "روبي". بعضهن يحملن ملامح مغربية، يترددهن على المكان وطريقتهن الداعرة في المشي وتتبع الزبناء تجعلهن مميزات عن غيرهن.
"رجاء" واحدة منهن، أصلها من الشمال المغربي. قضت في نابولي أكثر من أربع سنوات.
ليس لهن وقت محدد، "نعمل ليلا ونهارا، ونستعمل فندق روبي أو الفندق المقابل الذي يكتري فيه الزبون غرفة لساعة أو ساعتين أو ليلة كاملة كل حسب حاجته. كما من الممكن أيضا أن نذهب مع الزبون إلى مكان إقامته".
وعن الطريقة التي وصلت بها رجاء إلى هنا تقول في تأثر، "تلاقيت مع واحد في المغرب وتزوجنا، وجيت معاه لهنا لكنه أهملني بعد مدة. الحال هنا ليس مثل ما هو في فرنسا حيث المراقبة والمشرفات الاجتماعيات يتابعن الأسرة. وجدت نفسي في الشارع ولم أجد سوى هذا العمل الذي لا يتطلب دراسة أو شهادات وهو حال الكثيرات مثلي". وتحكي رجاء قصة إحدى زميلاتها التي تعرفت على "زماكري" في المغرب وأغراها بالسيارة و"التفركيس" و"الطاليان" فتزوجا بسرعة وعندما وصلت إلى الديار الإيطالية جاء لاستقبالها في مطار "نابولي" لم تتمكن من التعرف عليه لأن حالته كانت "مكرفسة" وكأنها تزوجت رجلا آخر، فذهبت معه على مضض، لكن زواجهما لم يدم طويلا، فوجدت نفسها هي الأخرى في الشارع يلتقطها فندق "روبي" أو أي فندق حقير آخر.

هناك 3 تعليقات:

  1. غير معرف2:17 ص

    البصمة المغربية في كل بقعة من العالم

    ردحذف
    الردود
    1. و خاصة الجزائرية في الصورة الثالثة هناك العلم الجزائري

      حذف
  2. هذه هي زيارتي الثانية لهذا بلوق. بدأنا مبادرة جديدة في نفس فئة هذا بلوق. قدمت لنا مع بلوق الخاص بك معلومات قيمة للعمل بها. لقد قمتم بعمل رائع....

    هتاف!
    new balance tennis shoes

    ردحذف