14‏/09‏/2007

مراكش مدينة عابرة للقارات

مراكش مدينة عابرة للقارات

من قال إن مراكش مدينة حمراء فقط! إنها مدينة حمراء وخضراء وصفراء وبكل ألوان الطيف. ولا تتطلب من الزائر نوعا خاصا من "العياقة" أو الذكاء الثاقب ليعطي لألوانها جميعا الدلالات السيميائية الممكنة.
إن جولة قصيرة بالمدينة تجعلك تحس وكأنك تمتطي صهوة جواد طائر قادم من حقب سحيقة إلى زمن ليس بزمانك، أو تركب آلة حديثة تسافر بك بين الحقب المختلفة، تبدأ من جامع الفنا حيث يختلط عبق التاريخ مع دخان الشواء الأبيض، وصياح الباعة، وطقطقات الراقصين، وأنغام العازفين، وحركات البهلوانات، وأنفة مروضي الحيوانات، ورشاقة النشالين الذين يتقاسمون دفء "الحلقات" مع "متحسسي المؤخرات"، فتخال المكان بلاطو فسيحا لتصوير فيلم هوليودي محكم مليء بالمؤثرات الخاصة، فيه جميع توابل المشهد الناجح.
تنتقل بك آلة الزمن العجيبة قرونا وقرونا، وتصل بك إلى علب الليل "الهاي" للناس "الهاي"، حيث تملأ أنغام موسيقى "التيكنو" جنبات "لوباشا" و"تياترو". يقضي "الدي جي" معظم الليل برأسه المائلة كأنه عيب خلقي، تصدح الأغنية الانجليزية على مكبرات الصوت: هذه ليست طوكيو. هذه ليست نيويورك.. هذه ليست باريس.. وينخفظ الصوت فجأة ويصيح الحاضرون هذه مراكش.
في ملهى آخر يملؤه عبق الزهور تجد "ستونا آخر" كما يقول أولاد اليوم، لأنك تنزل في ضيافة الإخوة الخليجيين والشاميين، الجوق اللبناني، يعزف أغاني محمد عبده وحسين الجاسمي، والزبائن من كل الأعمار، كلفوا أنفسهم، وجاؤوا إلينا من فيافي الخليج لصلة الرحم، يتبادلون التشجيعات والهدايا "والله ماكصروا"، وعلى أطرافهم فتيات في مقتبل العمر "لبسين من غير هدوم" يتمايلن بشعورهن المنسدلة، وحركاتهن الماجنة، وضحكاتهن الداعرة، "كصروا ركبينا والله".
في مكان آخر من مراكش تزور في "الم..." جميع أنحاء المغرب، "تشتف" مغنية الكاباريه الرعناء على ريبيرتوار عبد الوهاب الدكالي، وعبد الهادي بلخياط، دون أن تنسى الأغاني الشعبية أو "توقر" الحاجة الحمداوية. ومع كل وصلة جديدة، تمطر الحاضرين بوابل من الإهداءات تحمل خصوصيات المغرب الكبير: في خاطر الناظوري، والصحراوي، والطنجاوي والكازاوي، واولاد احريز.
مراكش لم تكترث بالانتخابات طوال المدة التي قضيناها هناك، لأنها غارقة في "بهجتها"، ولم تستيقظ بعد من حلمها الصيفي الجميل، الذي جعل منها قبلة عالمية لكل الأجناس والألوان. فالحملة بين بائعي المأكولات بساحة جامع الفنا أكثر شراسة لجذب الزبناء من الحملة الانتخابية الباردة في المدينة، ربما لأنها "نايضة" في أماكن أخرى حيث تتصارع ألوان "سبات لايت" بدل صراع الرموز والألوان الحزبية.
كل هذا الخليط وكل هذا السحر وكل هذه الألوان هي التي تجعل من مراكش مدينة للسحر والسفر والحلم الجميل الذي نتمنى جميعا أن لا نستيقظ منه قط.
جمال الخنوسي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق