09‏/08‏/2009

عاهرات فوق الشبهات

أنجزت الباحثة الفرنسية "كريستال تارو" دراسة قيمة تحمل عنوان "الدعارة الكولنيالية، الجزائر تونس والمغرب (1830 - 1962)"، رصدت فيها كيف حاول الاستعمار تقنين الدعارة منذ الأسابيع الأولى لاحتلاله بلدان شمال إفريقيا، وأبرزت كيف أصر المعمرون على جعل النساء البيض غير سهلات المنال للأهالي بل حرمن الاقتراب منهن، في حين سهلوا مأمورية الرجل الأبيض ليستبيح لحم النساء المستعمرات الدونيات اللائي لا حق لهن ومارس عليهم القهر والعنف والاستعمارين الجسدي والرمزي.
وجاء تقنين البغاء بالأساس حرصا على الصحة النفسية والجسدية والاجتماعية للرجل الأبيض وحماية له من "الاختلاط" مع "ليزانديجان" الذين ينتمون إلى درجة وضيعة من البشر.
ومن الأنتربولوجيا إلى الأدب، رسم لنا الكاتب الكبير محمد شكري صورة حقيقية لعاهرات الزمن الذي عاش فيه، لكن هذه المرة من وجهة نظر مغربية، من خلال شخوص أبدع في رسم تفاصيلها، وأدق طقوس حياتها.
وبدت هذه الكائنات الليلية للقارئ شريحة مغلوب على أمرها دفعتها الظروف القاسية إلى تبني أقدم مهنة في التاريخ من أجل الإفلات من براثن الجوع، واتقاء بسط اليد لطلب الصدقات المصحوبة بنظرات الشفقة والازدراء.
أما اليوم فيكفي النظر في الأحياء التجارية الراقية لنلحظ "إحداهن" تتنقل بين المتاجر كالنحلة العاملة، تمتطي سيارتها الفارهة رباعية الدفع. تنجذب نظراتها نحو واجهات محلات النخبة بمعروضاتها وأنوارها وألوانها ورجالها الغلاظ الذين يحرسون أبوابها. ورغم مظاهر الزينة والبذخ تحافظ على بعض ملامح "الأصالة" فيها، إذ تزين يديها وعنقها بحلي من الذهب باهظة الثمن.
تدخل إلى محل لبيع النظارات الشمسية لتقتني واحدة من "برادا"، وفي يدها تحمل حقيبة صغيرة ل"كوتشي" وساعة "شوبار" وحذاء "مانولو". وتدفع لصاحب المحل شيكا وهي تقنعه أنها لا تحب الموديلات الجديدة ل"دولتشي أند كابانا".
هذه هي مظاهر المأساة الجديدة لدعارة قديمة، بل لأقدم مهنة في التاريخ، التي لن تحدها لا القوانين الزجرية ولا المدينة الفاضلة كما ترسمها الذهنيات الحالمة باليوتوبيات الدينية.
إنها مأساة مجتمع يحتاج إلى مقاربة مغايرة تهدف إلى تقليص الفوارق الاجتماعية ومحاربة الفقر وتوفير فرص العمل، بدل الضربات الاستباقية والقوانين التجريمية والفتاوى المتضاربة التي حولت المومسات من "كائنات مهمشة" تبحث لنفسها عن مخرج، تثير الشفقة وتسلب التعاطف، إلى "سيدات مجتمع" يبحثن عن البذخ ورغد العيش وبحبوحته، وبدل أن تكون الدعارة شرا لابد منه غدت اليوم امتيازا مستحبا تسعى إليه الكثيرات ويحلمن ب"التمرغ في نعيمه".
جمال الخنوسي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق