19‏/12‏/2007


قبل أن تشاهد فيلم "ميونخ" لمخرجه "ستيفن سبيلبرغ" عليك أن تدع كل أفكارك واعتقاداتك على باب السينما، أزل عنك كل الشوائب والأفكار المسبقة التي ربما كونتها بقراءات هنا أوهناك حول الفيلم. عليك أن تدخل القاعة تملؤك رغبة واحدة و بلا خلفيات: "مشاهدة عمل فني".
لابد أن الأمر سيكون صعبا لأننا نحمل جميعا قضية (القضية الفلسطينية) في عقولنا وقلوبنا ونؤمن جميعا بمشروعيتها وعدالتها. كيف نوفق إذن بين هذه الازدواجية المزعجة أساسا لتقييم أي عمل فني. لنحاول.الفيلم عرض عند صدوره في فرنسا في أكثر من 400 قاعة دفعة واحدة. و يحكي قصة واقعية تتمحور حول العملية التي قام بها كومندو فلسطيني في الدورة الأولمبية بميونخ في 5 شتنبر 1972. الكوموندو الذي أطلق على نفسه اسم "شتنبر الأسود"، استطاع أسر 9 رياضيين إسرائيليين مشاركين في الألعاب. سيأخذ الكومندو 9 رهائن بعد قتل اثنين في محل إقامتهم بالقرية الأولمبية وبعد 23 ساعة سيقتل جميع الرهائن . لكن العالم ـ يقول صاحب الفيلم ـ سيكشف وجها جديدا للإرهاب، إذ سيتابع العملية قرابة 900 مليون مشاهد مباشرة على شاشات التلفزيون.بعد أن رفضت حكومة "غولدا مايير" إبرام أي صفقة مع الكومندو الفلسطيني قررت القيام بعملية مضادة وانتقامية لما حدث في ميونخ سمتها "غضب الله" يترأسها عميل الموساد الشاب "أفنار" رفقة 4 رجال آخرين يتكفلون بملاحقة 11 عنصرا من منظمة "شتنبر الأسود"، والذين اعتبرتهم إسرائيل المسؤولين عن أحداث "ميونيخ".
العملية كلها ما زال يلفها نوع من الغموض لأن ملفاتها في إسرائيل مازالت مصنفة ضمن بند "سري للغاية" في بلد في حالة حرب دائمة.الفيلم يتميز بتقنية عالية ويبرهن مرة أخرى على تمكن سبيلبورغ من أدواته السينمائية وقدرته الفائقة في التعبير. فشخصية البطل تجمع بين صفتين متناقضتين القوة والضعف، الثقة والشك. هذا ما سيجعل إحدى شخصيات الفيلم تقول ، بعد فحص يدي البطل ، "بالرغم من رقتك فلك يدا جزار".الفيلم مدته ساعتان و40 دقيقة، ورغم تكرار عمليات القتل لا يمكن اعتباره في أي حال من الأحوال فيلم "حركة" ولا يطمح المخرج لذلك. رغم أن تلك المشاهد محبوكة بشكل احترافي إلا أن "سبيلبورغ" تعمد أن يجعل المشاهد يتقزز من مشاهد الموت والعنف ويجعلنا نرغب ونتمنى التعجيل بنهاية تلك المشاهد كما يتمنى الجميع نهاية صراع كتب له أن يدوم طويلا. مشاهد القتل كانت تدمر الضحية والقاتل أيضا إذ يخرج البطل كل مرة أكثر وحشية وأقل إنسانية.
الفيلم يتجاوز التحديد الكلاسيكي للأفلام والصراع بين "الخير" و"الشر" إذ نصل في مستوى معين من الفيلم إلى فقدان بوصلة الخير والشر، ونصبح في حيرة من أمرنا حول التصنيف الذي يمكن أن نحدد به انتماء كل فرد للخندق المناسب. يحس البطل أنه يخسر قيما كان يؤمن بها. وتنجلي أمامه غيوم الاعتقاد الزائف. يكشف البطل في الأخير أن الضحايا الذين نفذ فيهم حكم الموت لا علاقة لهم بحادث ميونخ. سينقلب السحر على الساحر وسيحس البطل أنه مستهدف من الأعداء والأصدقاء معا. ليأخذ قرارا صعبا وعنيفا ومهينا للوطن حين يرفض العيش في إسرائيل وهي ضربة قوية لدولة هدفها الأسمى هو لم الشتات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق