01‏/12‏/2007

صانعو أمجاد فرنسا أصبحوا أعداء "المبادئ الجمهورية"!

صانعو أمجاد فرنسا أصبحوا أعداء "المبادئ الجمهورية"!
الإعلام الفرنسي الذي دفع ساركوزي إلى الرئاسة يتجاهلهم ويعاملهم كالأشباح والحثالة

إن المتتبع لنشرات الأخبار في المحطات الفرنسية لا بد أن يلحظ الطريقة الهوليودية التي تتعامل بها تلك القنوات مع الأحداث الاجتماعية، من اختطافات واختفاءات وجرائم اغتصاب وقتل. ويبدو للمشاهد المغربي، على وجه خاص، الذي لم يعتد مثل هذه السيناريوهات المعقدة، كيف يتم تصوير معاناة العائلة الفرنسية مثلا التي اختفت ابنتها أو ابنها عن الأنظار، وتنقل لك تصريح الأب أمام الكاميرا بأنفه الأحمر من شدة البكاء والنحيب، وهو يطلب من الخاطف المفترض أن يعيد ابنته إلى كنف العائلة، وقبل أن تظهر الشاشة أجمل مشهد وأكثرها تأثيرا، تلتقط الكاميرا بعض الصور للأرجوحة حيث كانت تلعب الطفلة. تظهر الأم مباشرة بعد ذلك بشعرها الأشقر المنسدل وعينيها الزرقاوين المغرورقتين بالدموع على خلفية حديقة البيت الخضراء والغناء، وهي تتوسل الخاطف طبعا، بإعادة طفلتها الجميلة والبريئة و"الظريفة" إلى حضنها لأنها "توحشاتها بزاف". ولا بأس أن تتجول الكاميرا لبعض اللحظات في غرفة الفتاة المفقودة وسريرها الفارغ إلا من دبها المخملي الذي يفتقدها، ولا بأس أيضا أن تأخذ المحطة بعض التصريحات من الجيران أمام المسبح، يؤكدون فيها أن العائلة فلان نموذجية "بلا مشاكل"، وابنتهم رائعة.
لا يمكن لأي كان مهما قسا قلبه أن لا يتعاطف مع هذه الفتاة الصغيرة وعائلتها المكلومة. صحيح أن القضية خطيرة والمسألة إنسانية وحساسة إلا أن الآلة الإعلامية تزيد في الحدث توابل الفرجة للتأثير على المشاهد وكسب تعاطفه.
لكن ما يلاحظ أيضا هو نوعية التعامل الذي خضع له حادث إنساني بالحدة نفسها، من طرف وسائل الإعلام ذاتها. فبعد مقتل الصبيين المغربي والسينغالي تجاهلت نشرات الأخبار في معظم القنوات الفرنسية عائلات الضحايا وعاملتها كالأشباح، لأنها ربما وجدتها لا تناسب خطها التحريري، أو بكل بساطة لأنها ليست "فوتوجينيك". وتعبر عن البؤس والتهميش والغضب أكثر منه عن "الحزن الإنساني الجميل" الذي يحقق "لوديمات" أو نسب المشاهدة العالية. والزبالة والقاذورات المنتشرة والمواسير المكسورة وصناديق السردين التي يعيش فيها "المهمشون" ستخدش صفاء ذهن المشاهد. في المقابل ركزت على معناة رجال الشرطة الأبطال والحماة البواسل لمبادئ الجمهورية السمحة والإنسانية ضد بربرية "ليزانديجان". ورسمت ملامح الشجاعة على محياهم بضماداتهم وكماداتهم.
إن هذه المفارقة في التعامل مع الأحداث داخل التلفزيون الفرنسي أمرا ليس بالغريب اليوم، فقد ظهرت إرهاصات هذا الحيف منذ زمن، وشككت العديد من الأقلام الحرة في حريته منذ سنوات، وعلى الخصوص غياب الحياد عن القناة الأكثر تأثيرا في فرنسا، ويتعلق الأمر بالقناة الأولى "تي إف 1". أو ليست هي المسؤولة عن إقصاء الاشتراكي ليونيل جوسبان من المرور إلى الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية سنة 2002؟ فنتج عنها صدمة القرن للفرنسيين عندما أفرزت صناديق الاقتراع زعيم الحزب العنصري واليميني المتطرف "جون ماري لوبان" لمواجهة جاك شيراك في الدور الثاني. كل هذا لأن القناة المذكورة ركزت على مدى شهور على "انعدام الأمن" والفوضى ومشاكل المهاجرين. اللعبة ذاتها قامت بها "تي إف 1" مع نيكولا ساركوزي الذي لا أحد في بلد برج "إيفل" يجهل العلاقة الحميمة التي تجمع الرئيس بعمالقة المال ومالكي حصص " تي إف 1" وغيرها من المحطات من أمثال "مارتان بويغ" "أرنو لاغاردير". لقد دعمت المحطات المرشح ضد الاشتراكية سيغولين روايال، وطبقت الخطة ذاتها وأظهرت "الرئيس الصغير" عملاق التغيير في فرنسا، الذي سيحل كل مشاكلها، ويقضي على طفيلياتها. لم لا وهو من اقتحم في يوم من الأيام أحد الأحياء الهامشية في الوقت الذي كان يحتل منصب وزير الداخلية، وصاح في الساكنة "سأطهر الحي من الحثالة"!
لقد وعد ساركو ووفى، لأن في بلد حقوق الإنسان من يعد بقهر أبطال الأمس الذين خلقت فرنسا أمجادها بدمائهم يفي بذلك دون قيد أو شرط. ولأن آلام بني البشر في بلاد حقوق الإنسان تختلف حسب قيمتهم وقيمهم ولون بشرتهم وأصولهم و"أى دي إن" التي يحملون في خلاياهم.
جمال الخنوسي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق